تيم الحاج | ميس شتيان | علي درويش
حكومة “مؤقتة” تدعم أخرى “شرعية”، و”شرعية” تدعم “مؤقتة”، والوسيط بين الأربع دولتان تبحثان عن مصالحهما في منطقة مضطربة، تتشابك فيها الصراعات، وتتشابه الآليات والأصوات الأممية.
يتراوح الدعم المتبادل بين العسكري والاقتصادي، فحكومة النظام السوري تمد الحكومة “المؤقتة الليبية” بالمقاتلين، وتستفيد من نفطها، وتورد إليها منتجات من تبقى من صناعييها، أما الحكومة “المؤقتة” السورية، فتحظى بدعم من حكومة “الوفاق” الليبية الشرعية، التي تحظى بدورها بخدمات مقاتلين سوريين.
تلك الخريطة من المصالح المتبادلة، فرضتها التحالفات السياسية، التي رعتها بصورة مباشرة كل من روسيا وتركيا، وخلفهما محوران يتجاذبان في الشرق الأوسط.
تحاول عنب بلدي في هذا الملف توضيح طبيعة التقارب بين الملفين السوري والليبي، على المستويات العسكرية والسياسية والاقتصادية، وأثر الدورين الروسي والتركي، وأهدافهما، بالاستناد إلى الوقائع والتحليلات والخلفيات التاريخية.
مقاتلون سوريون في ضفتي ليبيا..
خزان تزويد بإدارة روسيا وتركيا
مع نهاية عام 2019 انتشرت أخبار عن وجود مقاتلين سوريين بدعم تركي في ليبيا، يقاتلون إلى جانب حكومة “الوفاق” صاحبة الاعتراف الدولي، والتي تواجه هجومًا من قبل قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر، الذي يسيطر على الشرق الليبي، بما فيه من منابع للنفط.
أخذت تلك الأخبار حيزًا كبيرًا حينها من التغطية الإخبارية السورية، إلى أن تلقفتها الصحافة العالمية، وبدأت بالبحث عن حقيقة الموضوع، الذي شكل صدمة للسوريين، خاصة أنه تزامن مع هجوم لقوات النظام وروسيا على محافظة إدلب.
نُشرت عدة تحقيقات حول هذا الموضوع، وأُرفقت ببعض التسجيلات المصورة لمقاتلين يتحدثون اللهجة السورية، ويظهرون في ضواحي مدينة طرابلس الخاضعة لسيطرة حكومة “الوفاق”.
في ذلك الوقت، تواصلت عنب بلدي مع شخصيات من حكومة “الوفاق”، بينها الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية، محمد القبلاوي، ورئيس المجلس العسكري في مصراته التابع لوزارة الداخلية، إبراهيم بالرجب، ونفيا بشكل قاطع وجود مقاتلين سوريين بين صفوفهم قادمين من تركيا.
وأكدا أن المعلومة الصحيحة حول هذا الموضوع هي أن المقاتلين السوريين الذين يقاتلون في ليبيا هم في صف قوات اللواء خليفة حفتر، الذي يتمتع بدعم روسي.
ولفتا إلى أن أجهزة استخبارات حكومة “الوفاق” رصدت في الأشهر الأخيرة من عام 2019، وصول عدة رحلات من دمشق إلى ليبيا على متن شركة “أجنحة الشام” المملوكة لمجموعة “شموط التجارية”، المقربة من النظام السوري.
لكنهما أكدا أن لا معلومات لديهما عن جنسية المقاتلين الذين تحملهم شركة “أجنحة الشام”، وحصرا الاحتمالات في المقاتلين من جيش النظام أو من القوات الروسية أو من الميليشيات الإيرانية.
ومن جملة من قام بنفي هذا الخبر، الناطق باسم “الجيش الوطني السوري”، الرائد يوسف حمود، إذ قال لعنب بلدي، في 25 من كانون الأول 2019، إن المعلومات الواردة عن عرض تركي لإرسال مقاتلين من قواته إلى ليبيا غير صحيحة، و”لم يُقدم أي عرض (على الجيش الوطني) بهذا الشأن”.
حكومة “الوفاق” في ليبيا
هي الحكومة المعترف بها دوليًا، يرأسها فائز السراج المنتمي إلى “التحالف القومي الوطني” ومقرها في العاصمة طرابلس، وشُكلت في شباط 2016 بموجب اتفاق “الصخيرات”، وهو اتفاق سلام وقعه برلمانيون ليبيون، في 17 كانون الأول 2015، برعاية الأمم المتحدة بمدينة الصخيرات المغربية.
و”الحكومة المؤقتة”
يطلق عليها أيضا اسم “حكومة طبرق”، انبثقت عن برلمان طبرق المنحل في أيلول 2014، يترأسها عبد الله الثني، الذي يدعم قوات اللواء خليفة حفتر.
تركيا.. نقطة البداية
تدعم تركيا حكومة “الوفاق” بشقيها السياسي والعسكري، كما تدعم “الجيش الوطني السوري” الذي يضم فصائل معارضة سياسيًا وعسكريًا، والذي قيل إن المقاتلين السوريين الذين وصلوا إلى ليبيا ينتمون إليه.
ظلت مسألة مشاركة السوريين في القتال الليبي تتراوح بين أخذ ورد لبضعة أشهر، إلى أن خرج الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في 5 من كانون الثاني الماضي، وتحدث عن مشاركة جنود ليسوا أتراكًا إلى جانب حكومة “الوفاق” في ليبيا.
لم يفصح حينها أردوغان عن جنسية وعدد هؤلاء، لكنه عاد في 21 من شباط الماضي، ليوضح أن أشخاصًا من “الجيش الوطني السوري” التابع للمعارضة السورية، موجودون في ليبيا إلى جانب مدربين أتراك.
ورد أردوغان على منتقدي تدخله في ليبيا، بالإشارة إلى وجود أكثر من 15 ألف مقاتل وصفهم بـ”الإرهابيين” إلى جانب قوات خليفة حفتر، من مجموعة “فاغنر” الروسية، ومقاتلين من السودان، وفق قوله.
وسبق تأكيد الرئيس التركي عدة أخبار عن مقتل سوريين غادروا تركيا إلى ليبيا، كما نشرت حسابات سورية عبر “فيس بوك” صورًا وأسماء للقتلى.
حاولت عنب بلدي عدة مرات التواصل مع ذوي أحد القتلى إلا أنها لم تتمكن، وتحفظت عائلته التي تنحدر من ريف دمشق على التحدث عن كيفية مقتل ابنها، وتواردت حينها أنباء عن وصول تعليمات لـ”الجيش الوطني” بمنع عائلات القتلى من التحدث تحت طائلة الاعتقال.
روسيا تفتح الأبواب
لا يختلف المشهد كثيرًا بالنسبة للأنباء المتضاربة حول وصول مقاتلين تابعين للنظام السوري إلى ليبيا للقتال في صفوف قوات اللواء خليفة حفتر، فالنظام السوري لم يعلق على هذه الأنباء بعد، على الرغم من أنه شرع بإعادة العلاقات السياسية مع ليبيا من بوابة حفتر، وبالتنسيق مع روسيا.
وكشفت تقارير صحفية سورية وفرنسية، عن مشاركة سورييين تابعين للنظام عبر تنسيق روسي بالقتال إلى جانب قوات حفتر، أحدثها صدر عن صحيفة “لوموند” الفرنسية، في 5 من آذار الحالي.
وقالت الصحيفة إن بشار الأسد وحفتر اتحدا ضد حكومة “الوفاق” الليبية، وإن “مرتزقة تابعين للنظام السوري وصلوا مؤخرا إلى ليبيا للالتحاق بصفوف ميليشيات حفتر”، لم تحدد عددهم ولا تاريخ وصولهم.
وكان موقع “السويداء 24” المحلي كشف في شباط الماضي، عن ضلوع “حزب الشباب السوري الوطني” المرخص لدى حكومة النظام السوري، في تجنيد مرتزقة من المواطنين في السويداء ومحافظات مختلفة، بدعم شركة “فاغنر” الروسية، بغية إرسالهم للقتال في ليبيا.
ونشر الموقع معلومات ووثائق (بينها تسجيلات صوتية) تؤكد أن الحزب بدأ بالعمل على جمع المرتزقة منذ مطلع العام الحالي، مشيرًا إلى أن أمين فرع الحزب في محافظة السويداء، شبلي الشاعر، هو المسؤول عن ملف تجنيد المرتزقة في السويداء لإرسالهم إلى ليبيا، لمساندة قوات اللواء خليفة حفتر.
ولم يذكر “السويداء 24” أي أرقام لأعداد المقاتلين الذين ذهبوا من مناطق النظام السوري للقتال في صفوف قوات اللواء خليفة حفتر.
وفي كانون الثاني الماضي، تحدث الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، حول وجود “مرتزقة” يقاتلون في ليبيا نُقلوا من سوريا، نافيًا تبعية المرتزقة الروس في ليبيا للدولة الروسية.
وقال بوتين، في رد على وجود مرتزقة روس في ليبيا، “حتى إذا كان هناك مواطنون روس، فإنهم لا يمثلون مصالح الدولة الروسية ولا يحصلون على أي أموال منها”، بحسب تعبيره.
ما الذي يجمع روسيا وتركيا على الملفين السوري والليبي؟
لا يقتصر ارتباط الملفين الليبي والسوري على العسكرة، بل تعداه إلى الشأن السياسي، بأيادٍ روسية وتركية، وتُرجم ذلك عبر ربط اتفاق لوقف إطلاق النار في كلا البلدين في يوم واحد، ومنذ ذلك الحين أصبح الملفان يسيران سياسيًا وعسكريًا وفق ما تقتضيه مصلحة موسكو وأنقرة.
اختار الرئيسان الروسي والتركي يوم 10 من كانون الثاني الماضي، ليكون موعدًا لوقف الأعمال القتالية بين الأطراف المتصارعة في كل من ليبيا ومحافظة إدلب شمالي سوريا، بحسب بيان صدر حينها عن وزارة الدفاع التركية.
لكن هذا الاتفاق لم يصمد طويلًا في كلا البلدين، وكان أثر ذلك أخف في ليبيا، مقارنة بسوريا التي واصلت فيها قوات النظام والميليشيات الإيرانية، بدعم روسي، هجماتها ضد مواقع فصائل المعارضة، وتمكنت مع حلول آذار الحالي من السيطرة على مساحات واسعة من ريفي إدلب وحلب.
في حين اقتصر خرق الاتفاق في ليبيا على هجمات متقطعة لقوات حفتر، دون انتزاع مواقع من قبضة حكومة “الوفاق” التي ما زالت تسيطر على العاصمة طرابلس، هدف حفتر الأكبر.
استطلاع رأي: هل يرتبط الملفان السوري والليبي معًا؟
أجرت جريدة عنب بلدي عبر موقعها وصفحتها الرسمية على “فيس بوك” استطلاعًا للرأي، طرحت فيه على متابعيها السؤال التالي، هل تعتقد أن الملفين الليبي والسوري يرتبطان ببعضهما.. ما سبب ذلك؟
تقاربت الآراء على المنصتين، وأجاب 69٪ من المشاركين عبر “فيس بوك” البالغ عددهم 677، بنعم، بينما أجاب 31٪ منهم بلا.
وعبر الموقع شارك 162 مستخدمًا، أجاب 68٪ منهم بنعم، و32٪ بلا.
اختلاف وتشابه
على الرغم من وجود أوجه تشابه في طريقة تعامل روسيا وتركيا مع الملفين السوري والليبي، يرى الباحث الفلسطيني السوري، ومنسق “تجمع مصير”، أيمن فهمي أبو هاشم، أن تعقيدات الملف السوري فرضت على البلدين التعامل معه بآليات سياسية وعسكرية وأمنية مختلفة عن الملف الليبي.
لكل من روسيا وتركيا فهم جيواستراتيجي للمتغيرات التي حدثت في المنطقة العربية في زمن الثورات والانتفاضات العربية، وفق أبو هاشم، فليبيا ساحة مهمة في مجال الطاقة العالمية، وهي إحدى الدول الغنية بالنفط والغاز، عدا عن كونها سوق استهلاك للبضائع والمنتجات وسوقًا مفتوحًا لشراء الاسلحة، ولذلك تدرك كل من روسيا وتركيا أهمية التسابق على تعزيز نفوذهما السياسي والعسكري والاقتصادي في هذا البلد.
وهذا يتم من خلال استثمارهما في الصراع الداخلي بين الأطراف الليبية المتصارعة على السلطة، فكل منهما (روسيا وتركيا) يدعم الطرف الذي يضمن له مصالحه ونفوذه، حسب أبو هاشم.
أما التفاهم الأخير بينهما على وقف إطلاق النار، “فهو جزء من إدارة اللعبة وضبطها بطريقة تمنع تفرد أحدهما من فرض أجندته على حساب الآخر، وهذه الحالة تشبه بوجه ما تجربتهما في الملف السوري، مع الأخذ بعين الاعتبار أن طبيعة الصراع في ليبيا تختلف عن سوريا”.
تنافس على أشده
السياسي السوري المختص في العلاقات الدولية سعد وفائي، عدد في حديث لعنب بلدي، أسبابًا اقتصادية وتاريخية ودينية، تدفع روسيا وتركيا للمسارعة بالتدخل في الملفين الليبي والسوري.
عن الجانب التاريخي، قال وفائي، إن روسيا كوريث للاتحاد السوفيتي هي صاحبة النفوذ في كل من سوريا وليبيا طوال ما يزيد على نصف قرن، في الوقت الذي كانت فيه سوريا وليبيا جزءًا أصيلًا في الدولة العثمانية، وامتدادًا للديموغرافيا التركية، وبالتالي هناك تنافس على النفوذ في كل من سوريا وليبيا بين روسيا وتركيا اللتين تطالب كل منهما بما تراه أنه حق لها.
ومن الناحية الدينية، فإن النفوذ التركي السني على سوريا وتركيا يشكل خطرًا حقيقيًا على النفوذ الغربي المسيحي بالمنطقة، بحسب وفائي، الذي اعتبر أن كل الأسباب السابقة تجعل التنافس على أشده بين روسيا وتركيا.
تقارب دبلوماسي على إحدى الضفتين
مطلع آذار الحالي، أعلنت حكومة النظام السوري فتح السفارة الليبية، التابعة للحكومة التي تديرها قوات حفتر (الجيش الوطني الليبي) غير المعترف بها أمميًا، في دمشق، لتكون أول سفارة تمثل حفتر، خارج ليبيا.
جاء ذلك، بعد التوقيع على مذكرة تفاهم بين وزارة الخارجية والمغتربين في حكومة النظام السوري ووزارة الخارجية والتعاون الدولي التابعة لحفتر، وفق ما نقلته حينها وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا).
أما في الضفة الأخرى التي تجمع حكومة “الوفاق” والمعارضة السياسية السورية، فلا علاقات واضحة بينهما، على الرغم من أنهما يتلقيان دعمًا سياسيًا وعسكريًا من تركيا.
عنب بلدي حاولت التواصل مع عدة شخصيات في المعارضة السورية بشقيها “الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة” و”الحكومة السورية المؤقتة” لمعرفة طبيعة وشكل العلاقة السياسية التي قد تكون تجمعهم بحكومة “الوفاق” الليبية لكنها لم تحصل على رد واضح في هذا الخصوص.
محطات من تاريخ العلاقات السورية- الليبية
خضعت سوريا وليبيا بعد ضعف وانحسار السلطنة العثمانية للاستعمار الغربي، كحال بقية المناطق الخاضعة سابقًا للسلطنة، وحصلت سوريا على استقلالها من الاحتلال الفرنسي في نيسان 1946، وعاشت فترة من عدم الاستقرار السياسي بسبب تعدد الانقلابات حتى وصول حزب “البعث الاشتراكي” إلى السلطة واستئثاره بها أواخر الستينيات من القرن الماضي.
بينما نالت ليبيا استقلالها بعد خروج قوات التحالف (فرنسا وبريطانيا) من الأراضي الليبية عام 1951، لتصبح دولة ذات نظام فيدرالي ملكي دستوري وراثي وتحت حكم الملك إدريس السنوسي، حتى انقلاب الضباط بقيادة الرئيس السابق، معمر القذافي، عام 1969، الذي بدأت في عهده علامات التقارب بين سوريا وليبيا.
كان القذافي ممن تأثروا بالفكر العروبي الناصري ووقف مع ما يسمى “محور المقاومة” الذي تبنته القيادة السورية، وتزامنت أول زيارة للقذافي إلى سوريا مع انقلاب 16 من تشرين الثاني عام 1970، الذي سماه نظام البعث “الحركة التصحيحية”، وبرر زيارته المفاجئة بالغموض الذي ساد الوضع في سوريا والتضارب في الأنباء.
وقّع الرئيس المصري الأسبق، أنور السادات، والقذافي، والرئيس السابق، حافظ الأسد، على اتفاقية ودستور، لتشكيل اتحاد الدول الثلاث فيما سمي “اتحاد الجمهوريات العربية“، في نيسان 1971، وأجري استفتاء شعبي للدول الثلاث في أيلول من العام نفسه، نتجت عنه موافقة الأغلبية العظمى من شعوب الدول على الوحدة، على أن تطبق في العام 1972، لكن لم يُكتب لها النجاح بسبب اختلاف قادة الدول الثلاث.
اتفق الأسد الأب والقذافي خلال الحرب العراقية- الإيرانية (1980 و1988)، ووقفا بجانب إيران ضد العراق ودول الخليج من خلفه، ودعم القذافي إيران بصواريخ باليستية (بعيدة المدى).
كما قدم القذافي أموالًا للرئيس حافظ الأسد في الثمانينيات استجابة لشروط أخيه رفعت الأسد لخروجه من سوريا إلى روسيا، إثر المواجهة العسكرية بين الأخوين، التي كادت أن تؤدي إلى انقلاب عسكري يطيح بحافظ، وقدم القذافي 200 مليون دولار وُضعت في جيب رفعت، وحل الأمر بين الأخوين، حفاظًا على استمرارية حكم حافظ في سوريا.
استمرت العلاقات السورية- الليبية في تناغم مستمر خلال التسعينيات، كما أن موت حافظ الأسد لم يغير من مسيرة العلاقات بين البلدين، وكانت الفترة التالية بعنوان التعاون الاقتصادي، بهدف تسديد وديعة ليبيا في المركزي السوري في عهد الأسد الأب.
عين النظام السوري على النفط الليبي..
حفتر يصرف نفطه “المُعاقب” في سوريا
بعد توقفها في عام 2012، عادت العلاقات تدريجيًا بين حكومة النظام السوري والحكومة التي تدعم “الجيش الوطني الليبي” بقيادة حفتر، عبر زيارات وفود اقتصادية متبادلة وتنظيم معارض.
في آب 2017، توجه رئيس اتحاد المصدّرين السوري، محمد السواح، إلى مطار بنغازي، ليعود برفقة وفد ليبي مكون من 70 رجل أعمال للمشاركة في معرض دمشق الدولي.
وتلت هذه المشاركة، توقيع وزير الاقتصاد في حكومة النظام السوري، محمد سامر الخليل، مع نظيره الليبي في حكومة حفتر، منير عصر، في شباط 2018، اتفاق تبادل تجاري، خلال زيارة للأخير إلى سوريا.
وأعلن اتحاد المصدّرين السوري في آذار من العام ذاته، توجه أول سفينة شحن بضائع إلى ليبيا بموجب الاتفاق، تحمل 300 طن من منتجات سورية، تضمنت ألبسة وأحذية ومواد غذائية.
في أيار 2018، افتُتح معرض “صنع في سوريا” الاقتصادي لأول مرة في بنغازي الليبية، بمشاركة 100 شركة سورية وليبية مختصة بالمواد الغذائية، بينما شارك “مجلس أصحاب الأعمال الليبيين” في بنغازي، بمعرض دمشق الدولي بدورته الـ60 في حزيران 2018.
في أوائل العام الحالي، أعلنت وزارة النقل السورية عودة الخطوط الجوية الليبية للعبور فوق الأجواء السورية بعد توقف دام لسنوات بسبب الحرب، وتبع ذلك افتتاح سفارة ليبيا في دمشق.
عقب افتتاح السفارة، قال وزير الاقتصاد في حكومة النظام السوري، محمد سامر الخليل، إن ليبيا اعتادت على السلع السورية و”نحن نشكل وفودًا من قطاع الأعمال للتواصل مع نظرائهم في ليبيا لتطوير التعاون التجاري المشترك ولاحقًا الاستثماري”.
وزير الخارجية والتعاون الدولي الليبي في حكومة حفتر، عبد الهادي الحويج، أكد أن ليبيا بقرارها الاقتصادي الجديد، غيرت البوصلة 180 درجة، باتجاه المنتجات السورية والشركات السورية واليد العاملة السورية، بحسب صحيفة “الوطن“.
ونقلت الصحيفة عن نائب رئيس مجلس الوزراء الليبي، عبد الرحمن الأحيرش، خلال زيارته إلى سوريا عند افتتاح سفارة حكومة حفتر، أنه تحدث والوفد المرافق له، مع رئيس النظام السوري، بشار الأسد، حول التبادل التجاري وخصوصًا المشتقات النفطية.
وأضاف أن السوق الليبي “متعطش” للمنتجات السورية بالكامل، و”تاريخيًا كانت سوريا هي المسيطرة على السوق الليبي”.
النفط الليبي مُتنفسٌ للنظام السوري
ربط وزير المالية والاقتصاد في “الحكومة السورية المؤقتة”، عبد الحكيم المصري، عودة العلاقات التجارية بين حكومة النظام السوري وحكومة حفتر، بالسعي لتشكيل تحالف ضد وجود تركيا في ليبيا، ووجود مصالح متبادلة بخصوص النفط الليبي.
وقال المصري في حديث لعنب بلدي إن وجود تركيا في ليبيا سوف يعرقل الكثير من الصفقات للحكومة الداعمة لحفتر والمتعاونين معها، في إشارة إلى الإمارات ومصر وروسيا وإيران.
إضافة إلى ذلك، وجد النظام السوري في هذا التقارب متنفسًا لاستيراد النفط من ليبيا، كما وجدت حكومة حفتر سوقًا لتصريف النفط “المعاقب أو المحاصر”.
وأشار المصري إلى أن 85% من حقول النفط، و55% من حقول الغاز في سوريا، خارج سيطرة النظام، ومناطق الإنتاج الزراعي (حبوب، قطن، زيتون) والثروة الحيوانية، توجد في الشمال السوري ومناطق الجزيرة، ومعظم هذه المناطق خارجه عن سيطرته، ما يبرر حاجته للنفط الليبي.
محكوم بقوات حفتر
تعتمد ليبيا في معظم إيراداتها على النفط، وهي أحد أعضاء منظمة “أوبك”، بينما تسيطر الحكومة الداعمة لحفتر على معظم موانئ وحقول النقط في ليبيا.
وتتأثر هذه الموانئ بصراع مستمر بين “الجيش الوطني الليبي” بقيادة حفتر، وقوى تابعة لحكومة “الوفاق”، إذ تفرض قوات حفتر بين الحين والآخر حصارًا على هذه الحقول.
وتسبب حصار فرضه موالون لحكومة حفتر على موانئ النفط الليبية، في كانون الثاني الماضي، في تراجع الإنتاج إلى 91 ألفا و221 برميلًا في اليوم الواحد بحلول 17 من آذار الحالي، بحسب بيان لـ”المؤسسة الوطنية للنفط ” في ليبيا.
وتسبب ذلك في خسائر مالية تجاوزت 3.36 مليار دولار، منذ 17 من كانون الثاني الماضي، بعدما أغلقت جماعات موالية لخليفة حفتر المتمركزة في شرقي ليبيا موانئ وحقول نفط، بحسب وكالة “رويترز“.
صادرات إلى ليبيا؟
رغم الحديث عن التصدير المستمر من سوريا إلى ليبيا، شكك المصري بارتفاع قيمتها، مشيرًا إلى أن الناتج المحلي انخفض بشكل كبيرعلى مدى سنوات الحرب، ما جعل النظام غير قادر على إجراء تبادل تجاري مع الحكومة المقربة من حفتر، نظرًا لعدم امتلاكه الموارد الكافية.
ذلك الأمر يتعلق بالعقوبات الأمريكية والأوروبية على النظام السوري، وأحدثها قانون “سيرز” الذي أقرته واشنطن مؤخرًا، والقاضي بفرض عقوبات إضافية اقتصادية على النظام وكل من يتعامل معه في مجال الطاقة والتمويل والنقل، وفي حال طُبق هذا القانون، سيزيد صعوبة التبادل التجاري بين النظام و”حكومة طبرق” في ليبيا، وبقية الدول المرتطبة بعلاقات تجارية مع النظام السوري، وفق المصري.
“المؤقتة السورية” تنشد علاقات مع “الوفاق”
نفى المصري وجود علاقات اقتصادية أو اتفاقيات تجارية بين “الحكومة السورية المؤقتة” وحكومة “الوفاق” الليبية الداعمة للثورة السورية، مرجعًا الأمر إلى الظروف والقيود الدولية، ولعدم توفر المنتجات التي تحتاجها ليبيا في مناطق سيطرة فصائل المعارضة السورية.
لكنه أكد رغبة الحكومة “المؤقتة”، وهو وزير المالية فيها، في إبرام اتفاقيات تبادل تجارية مستقبلية مع حكومة “الوفاق”، “في حال سمحت الظروف، خصوصًا بعد السيطرة على مناطق عملية نبع السلام، تل أبيض ورأس العين”، بحسب المصري، في إشارة إلى إمكانية إنشاء مشاريع إنتاجية في هذه المناطق قادرة على توفير سلع للتوريد.
وفي حال إنجاز تلك العلاقات، يكمل العامل الاقتصادي صورة التقارب السوري- الليبي، الذي لا يعيقه نصف الاعتراف الدولي، بل قد يمهد إلى تقارب دبلوماسي يواصل الحلفاء رعايته، بينما تبقى تلك العلاقات مؤقتة إلى حين الوصول إلى حل في سوريا وليبيا.
العلاقات الاقتصادية مع ليبيا في عهد الأسدين
اتفاقيات استثمارية واسعة لتسوية الوديعة الليبية
شهدت العلاقات السورية- الليبية، اتفاقيات تجارية واستثمارية في عهد حافظ الأسد، أهمها التبادل التجاري بين البلدين واتفاقيات النقل البحري، واستمرت العلاقات بعد تسلم بشار الأسد الحكم في سوريا عام 2000.
في عام 1978، أُسست “الشركة السورية- الليبية للاستثمارت الصناعية والزراعية” (سيليكو)، ومقرها دمشق، وأهم نشاطاتها حفر آبار المياه، وانضمت الشركة عام 2013 كعضو في مجلس إدارة المصرف الدولي للتجارة والتمويل في سوريا.
في 2008، تم توقيع اتفاقية لتسوية الوديعة الليبية لدى مصرف سوريا المركزي والبالغة 200 مليون دولار أمريكي.
وزير المالية السوري، محمد الحسين، صرح حينها أن الاتفاقية تنص على شطب الفوائد المتراكمة على الوديعة منذ العام 1982، بقيمة 350 مليون دولار، وأضاف أن أصل الوديعة سيتم استثماره بالكامل في سوريا من خلال إنشاء مصنع إسمنت يستثمره الجانب الليبي لفترة محددة ثم تنتقل ملكيته بالكامل إلى الحكومة السورية.
وأشار إلى الاتفاق على تسهيل وتطوير عمل الشركات الإنشائية السورية في ليبيا، وتسهيل إقامة شركات مشتركة من “الشركة العامة للطرق والجسور” و”السورية للشبكات” وشركاء ليبيين، والاتفاق على تبادل وثائق اتفاقيتي النقل البري والبحري بين البلدين تمهيدًا لتوقيعها.
إلى جانب توقيع اتفاقية تعاون مشترك بين المصرف التجاري السوري والمصرف الجماهيري الليبي، وتأسيس مجلس “رجال أعمال سوري- ليبي” قبل نهاية 2008، وفق ما نقلته صحيفة “الثورة” الحكومية.
في العام 2010 شهدت العلاقات مزيدًا من التطور، بعد اجتماع عقدته “اللجنة العليا السورية- الليبية”، برئاسة رئيس مجلس الوزراء السوري، محمد ناجي عطري، وأمين اللجنة الشعبية العامة في ليبيا، البغدادي علي المحمودي، وتم الاتفاق حينها على 17 بندًا، من بينها تعزيز التبادل التجاري.
وشملت الاتفاقيات، تسهيل انسياب البضائع والسلع الوطنية المنشأ عبر طريق النقل البري إلى أسواق كلا البلدين والعبور إلى دول ثالثة، وتطوير النقل البري والجوي، إلى جانب التعاون المشترك في قطاعات الزراعة والنفط والثروة المعدنية.
إضافة إلى إقامة أعمال مشتركة بين مؤسسات القطاعين العام والخاص في كلا البلدين، من ضمنها إنشاء “الشركة العامة للبناء والتعمير السورية” وحدات سكنية في منطقة “تندميرا” الليبية، ومشاريع بنية تحتية في مناطق ليبية أخرى.
إلى جانب إعفاء رجال الأعمال السوريين الذين يحملون جوازات سفر تبين مهنتهم كرجال أعمال أو بطاقات معتمدة من اتحادات الغرف المعنية (تجارة، صناعة، زراعة، سياحة، ملاحة)، من أي قيود لدى دخولهم الأراضي الليبية، وتفعيل دور القطاع الخاص في كلا البلدين من خلال تأسيس مجلس “رجال أعمال سوري– ليبي”.