بيلسان عمر – دمشق
«الناس مقامات»، كثيرًا ما سمعناها مذ تفتحت براعمنا، لم نكن ندرك لها حينها معنى، ففي البيت كنا إخوة نحبو، نمشي، نتكلم، نبكي، نأكل، وغيرهم الكثير وبالطريقة ذاتها، حتى أننا نأخذ «الخرجية» لنشتري ما نحب ونشتهي، وبقدر متساوٍ، وفي المدرسة كلنا نرتدي البدلة الرسمية، ونذهب ونعود في الوقت ذاته، ونتلقى ذات الأفكار، ونصلي خلف الإمام بنفس الطريقة والميعاد، ونلعب كتفًا لكتف بذات الأرجوحة، ندوس العشب ذاته، ونمشي الرصيف عينه، في مزيج يوهمنا فيه كل من حولنا أننا متساوون في الوجود، فإذا بمجتمعنا طوابق عديدة، كلٌّ ينظر من طابقه، والفقير ينظر من الطابق الأرضي ودونه.
الحقيقة مرّة، والواقع أمرّ
لكن ها هو واقعنا يثبت لنا أنه أمر مختلف تمامًا، يدفعنا لنعود بذاكرتنا إلى أعوام ليست ببعيدة عن الحرب اللاإنسانية التي نحياها اليوم، هناك في تلك البقعة من المكان، حيث الزمان غدر بساكنيها، يتقوقعون ولا يسألون الناس إلحافًا، يعجز الفقراء في المال، الصحة، العلم، … عن مد أياديهم إلى كثير من الأغنياء الذين يمسكونها خشية الإنفاق، دونما أن يعطوا عن يد، ليس لأنهم صاغرين، بل لأن الفقير بنظرهم دون المستوى، حتى إلقاء التحية باليد لا يتجاوز أطراف الأصابع.
مهجّرون ومقيمون
الصورة نفسها تتكرر اليوم، بعد أن صنّفنا أنفسنا –أو بالأحرى صنّفتنا الحرب ذاتها- مهجرين ومقيمين، إذ كثيرًا ما انتشرت ظاهرة حرمان أولاد المقيمين الاختلاط بأولاد المهجّرين –وكأنهم أولاد شوارع- بحجة خوفهم على أولادهم من تعلم الصفات السيئة، فعلى قول أم مصطفى (السيدة الفاضلة الراقية بنت العز والجاه، المقيمة -حسب التصنيف الأخير) التي باتت تخجل من كلام ابنها الصغير ذي الأربع سنوات «والله ابني ما كان هيك، عم يحكي كلام بذيء، بعد ما صار عنا بالبناية مهجرين ونازحين، صار يتعلم من ولادهم» دونما أن تدرك تلك السيدة، أن ابنها لم يكن ينطق بتلك الكلمات لأنه لم يكن يتكلم أصلًا، طالما أن المهجرين قد تجاوز على تهجيرهم ثلاث سنوات.
حتى من يريد زواجًا يسيرًا دونما تكاليف، فتطير عيونه إلى بنات المهجّرين، لكن شريطة إبقاء الأمر سرًا، حتى لا تنخدش درجة رقي مستواهم، ولا يرمقه أحد أبناء مستواه من المقيمين بنظرة استخفاف ولا حتى استنكار.
خصيصًا للمهجّرين
انتشرت مطلع الأسبوع الجاري بين المهجرين أنباء عن وجود وجبات غذائية، منظفات، حرامات، بطانيات سيتم توزيعها لهم، بغض النظر عن وجباتهم الأساسية، على أن يتم توزيع هذه المواد في جمعية خيرية في كفرسوسة (حي المعصرة)، وفعلًا اجتمع الناس وبأعداد كبيرة، وتم توزيع عدة وجبات لمن سبقه حظه إلى مسؤول التوزيع، ووعدوهم إتمام العمل في اليوم التالي، لتزداد الأعداد أكثر وأكثر، وكل شخص واقف يتصل بأقربائه وجيرانه.
في اليوم التالي ودرءًا «للعجقة» وزعوا أرقامًا على الواقفين، على أن يتم التسليم حسب الرقم، بدءًا من اليوم التالي، وقبيل المغرب بدقائق انصرف من تبقى واقفًا بعد أن أعيته الحيلة دونما بلوغ هدفه، ليأتي صباحًا أكثر وأكثر من المتجمعين، وبلعبة «وسخة» على حد تعبير إحدى الواقفات، تم تفريق الناس، إذ تقول السيدة أم وائل «لليوم الثالث على التوالي أقف على الدور، اليوم الأول دونما فائدة، الثاني أعطوني رقمًا ووعدوني لليوم الثالث، في اليوم الثالث طلبوا من كل حامل رقم أن يذهب إلى المختار ليضع توقيعه وختمه على الورقة، مؤكدًا المختار بدوره أن صاحب الرقم مهجّر فعلًا، وما إن تفرقت الحشود باتجاه مكتب المختار، حتى وصلت سيارات أمنية، قامت بنقل محتويات الجمعية من المواد التموينية إلى مكان مجهول».
مشاريع رمضانية
مشاريع ضخمة تفتتح يوميًا في شهر الخير، وفرق تطوعية لم نسمع لها اسمًا من قبل غزت الساحة الشهر بأعمالها وسكبها التي لا تسمن ولا تغني إلا ضمائر أصحاب المشروع، ظنًا منهم أنهم يخففون وطأة الحرب عن هذه العوائل، ناسين أو متناسين أنهم يقدمون خدمات مجانية لهذا النظام الآثم، ليستمر في غيه وظلمه، فها هم يجندون فرقًا بطاقات وقدرات بشرية ومادية كبيرة قبيل رمضان لدراسة احتياجات العائلات، ويقومون بزيارتهم ميدانيًا للتأكد من صدق كلامهم، ووصل الحد ببعضهم إلى فتح براد العائلة لمعرفة أصناف الطعام فيه، يكاد الناظر يخال أن أفراد الجمعية الخيرية، أو الفريق التطوعي تابعون لأحد الأفرع الأمنية، التي تداهم منزل أحدهم.
عند سؤال إحدى القائمات على مشروع السلل الرمضانية «لماذا لا تقدمون للعائلات قسائم بقيمة مادية محددة، يشترون به ما يشاؤون، دون أن يتقيدوا بما تقدموه لهم؟ لماذا لا تتركون لهم حق اختيار وجباتهم الغذائية بإرادتهم لا بإرادتكم!»، ليأتي جوابها ليس بأقل إيلامًا من الحرب ألم اختلاف المستويات الاجتماعية «نفذنا هذه الفكرة مرة، ولكن بأم عيني شاهدت إحدى العائلات التي سلمتها القسيمة، في المول المخصص لصرف القسيمة، وهي تشتري –سنيكرز- في وقت هم بأمس الحاجة لمواد أخرى من رز وعدس وبرغل وزعتر»، وكان السنيكرز صك الغفران الذي يعطى لأصحاب المستوى أولئك دونما هؤلاء.
سكبة رمضان
يتردد كثيرًا هذا المصطلح على مسامعنا في شهر الخير، أوليس تذكّر أخيك وجارك خيرًا، أوليس إطعامك للطعام على حبه للمساكين واليتامى والجيران وذوي القربى خيرًا، وتعودنا صغارَا أن نسكب لجيراننا -كذا هم يفعلون- من نفس الوجبة التي نغرف منها لقمتنا، أما أن تشيع اليوم وبشكل يكاد يُذهب بالأبصار ظاهرة إطعام المساكين والفقراء والأرامل وعوائل الشهداء والمعتقلين والمفقودين سكبة رمضانية، وإيصال سلل غذائية لهم، من غير أصناف يأكلها قائمو المشروع فهذا عار جديد على الإنسانية.
وما إن بدأ شهر الخير حتى انتشرت رائحة الأطعمة الذكية في حارات دمشق، كل فريق تطوعي اتخذ مقرًا له بدوام رسمي، من العاشرة صباحًا حتى آذان المغرب، يجهزون وجبة الإفطار، ويقومون بتوزيعها على العائلات، ومنهم من يقيم موائد رمضانية مع هذه العائلات في المساجد، ويتم التقاط العديد من الصور الفوتوغرافية، بل وحتى مع العائلة ذاتها على مبدأ «صوّرني سيلفي والعيلة خلفي»، لتمجيد عملهم «الخيري» دونما أدنى إحساس بشعور العائلة.
نحن لا ننكر مثل بادرات الخير هذه، ولكن ننكر عليهم إضاعتهم للكم الكبير من الطاقات المادية والمعنوية لهذه الفرق في مشاريع تلبي تعطشهم للعمل الإنساني فقط، دونما أن تلبي حاجات الفئة المستهدفة ولو بشق تمرة، فانظر فيما أقامك الله قبل تنفيذ أي مشروع، وفكر بمشاريع تنموية تمكينية شفائية، لا مسكن آلام ذي مفعول مؤقت.