هناك فكرة رائجة تواجه متابعي الحياة العامة العربية، تقول إن التيارات الديمقراطية فشلت، لأنها نخبوية وبعيدة عن هموم المواطن العادي، بينما نجحت تيارات الإسلام السياسي لأنها أكثر تنظيما وقربا من الناس.
هذه الفكرة تبسيطية وخاطئة، لكونها تدّعي أن تيارات الإسلام السياسي ناجحة، بينما نجدها تتهاوى في كل مكان من عالمنا العربي، وكان آخر مواقعها التي خسرتها بالأمس القريب السودان، حيث خرج حكم عمر البشير من السلطة بعد قرابة ثلاثين عاما من استيلائه عليها. وكان قد سبقه إلى الخروج منها الإخوان المسلمون في مصر، حيث أطاح انقلاب عسكري حكم الرئيس الراحل محمد مرسي، بعد مظاهرات ضمت عشرات ملايين المصريين ضده، استغلها العسكر لإخراجه من الحكم، بحجة تفويض شعبي منحتهم إياه الملايين، ويستخدمونه إلى اليوم، ولكن لقمع الشعب. بينما يتهافت تيار الإسلام السياسي، بمختلف تنويعاته، في العراق، ويقوم الشعب قومة رجل واحد ضده، وتسمع هتافاته الرافضة له في العالم بأسره. وتواجه حركة النهضة مقاومة متزايدة في تونس، على الرغم من جهودها المتقدمة للتكيف مع واقع ما بعد الربيع العربي، هذا الحراك التاريخي الذي جاء من خارج جميع الأحزاب، لكنه حمل مطالب غير إسلامية، هي أقرب إلى المنظومة الفكرية الديمقراطية، وكشف كم هي عميقة أزمات النظم الحزبية القائمة: إسلامية كانت أو ديمقراطية أو قومية أو اشتراكية، وحتى ليبرالية.
لا تؤكد تجربة الأحزاب الإسلامية امتلاكها مهارات تنظيمية خاصة تفوق ما لدى غيرها، بل تثبت العكس، وهو أنها، كأحزابنا الأخرى، تفتقر مثل هذه المهارات، حتى في التنظيمات المسلحة التي أسستها، وربطت، في أحيان كثيرة، مصيرها السياسي بها. كما تفتقر إلى القدرة على إثبات أن كل مسلم هو إسلامي بالضرورة، وينتمي بالتالي إليها، أو يعتبر من أتباعها، ولها حق التحدث باسمه والتصرف نيابة عنه، مهما كان موقفه منها. هذا الافتراض، الخاطئ تماما، تدحضه الأرقام التي تؤكد أن عدد المنظمين في أي حزب إسلامي يبقى صغيرا جدا بالمقارنة مع عدد المسلمين في أي بلد. هذا أولا.
وثانيا، تزعم الأحزاب أن قراءتها تتفق اتفاقا مطلقا مع ترجمة الإسلام في واقع السياسة والبشر، ولذلك يعتبر رفضها رفضا للإسلام، والاعتراض عليها أمرا يتجاوز السياسة إلى الدين، الذي لا بد أن يتجاوز فهمه السياسي جميع أنواع التباينات المحلية والوطنية والقومية، ويعتبر الكلمة الفصل بين الحق والباطل.
ليس هذا شماتة بها، بل محاولة للقول إنها في مأزق، كغيرها من الأحزاب، بعد فشلها في التصدّي لمهام الحكم، وما ارتكبته من أخطاء، كغيرها، في الثورة السورية، ومارسته من سلبية حيال تنظيمات الإرهاب، وتجاهل واجبها في التصدّي لها، دفاعا عن المؤمنين وعن الدين الذي كان عليها حمايته بأي ثمن، لحماية ثورة الحرية وأهدافها وشعبها. ومن يتابع تحولات الرأي العام، يجد أن على الإسلام السياسي، كغيره من تيارات السياسة، العمل لاستعادة ما فقده من ثقة المواطنين، لما لذلك من أهمية بالنسبة لتمثيل الشعب في فترةٍ مفصليةٍ يتراجع خلالها تمثيله، وتخلو الساحة أكثر فأكثر من المطالبين بحقوقه، وإلا خرج صفر اليدين من أي حلٍّ سياسي يتم التوصل إليه، أو نال حصةً لا تتفق وحجم ما قدّمه من تضحيات، وأبداه من صمود أسطوري لم يكن أحد يصدق قبل الثورة أنه مؤهل له.
.. ولأن التيارات غير الإسلامية ليست في وضع أفضل، فإن من الضروري التحضير للقاء حواري بين ممثلين للطيفين، الديمقراطي والإسلامي، بهدف توحيد مواقفهما تجاه مهمةٍ ملحةٍ ومباشرة، تتصل بالاستعداد لخوض معركة حل سياسي ينصف الشعب ويحترم تضحياته. ثم، وبعد ذلك، فليعودا إلى ما عاشا عليه من خلافاتٍ مدمرة، لعبت دورا خطيرا في فشلهما وتسيد الاستبداد، ثم في تلاشي الثورة.