يرفض فلاديمير بوتين اتهامه بممارسة “عبادة الفرد”، ويؤكد الناطق باسمه ديمتري بيسكوف، أن بوتين لا يعجبه هذا التعبير، وسبق أن حدد موقفه الرافض، منذ زمن بعيد، لكل تجليات هذه الظاهرة. ويبدو تأكيد بيسكوف هذا مثيراً للسخرية الآن على خلفية العاصفة، التي أثارها ما جرى في مجلس الدوما الثلاثاء المنصرم في 10 من الشهر الجاري، حين أقر المجلس “تصفير” (من الصفر) عدد رئاسات بوتين، ومنحه الحق بالترشح من جديد لمنصب الرئيس.
كان مجلس الدوما مجتمعاً في ذلك اليوم لمناقشة اقتراح تقدم به نواب حزب السلطة “روسيا الواحدة”، والمتعلق بضرورة إجراء انتخابات برلمانية مبكرة، انسجاماً مع التعديلات الدستورية، التي سبق أن أقرها. وفجأة، وقفت عضو الحزب، رائدة الفضاء الأولى في العالم، فالنتينا تيريشكوفا (83 عاماً)، واقترحت تصفير عدد رئاسات بوتين، الذي وصل في هذه الأثناء إلى المجلس، وأوقف على الفور النقاش حول الانتخابات المبكرة “لعدم ضرورتها الآن”، ووافق على اقتراح تيريشكوفا، شرط عرضه على المحكمة الدستورية، ومن ثم على “التصويت الشعبي العام” في 22 الشهر القادم، من دون الإلتفات إلى وباء الكورونا.
ما أن شاع نبأ “التصفير” هذا، الذي سمي بإسم تيريشكوفا، حتى انطلقت في الإنترنت الروسي موجة عارمة من الفكاهات والشتائم المقزعة لبوتين ولرائدة الفضاء العجوز، وانتشر على الفور إقتراح بإعادة إرسال تيريشكوفا إلى الفضاء، على أن تقيم هناك. والروس سخريتهم سوداء ثقيلة الوقع، على قول الكاتبة الروسية Alla Bossart، وهم يكثرون من استعمال الشتائم “من الزنار ونازل”، إذ بوسع الروسي أو الروسية أن يروي واقعة كاملة، من دون أن يستخدم كلمة واحدة من خارج قاموس شتائمهم. وتروي مراسلة صحيفة سويدية في موسكو، كما نقلت نوفوستي، بأن صديقها الروسي استشاط غضباً ما أن علم بنبأ تصفير رئاسات بوتين، وأخذ يصرخ بالهاتف بكلمات “لا أستطيع نشر كلمة منها”، وأنهى حديثه بقوله: “هكذا، ببساطة صفروا عهوده الرئاسية. هم لا يستطيعون أن يُظهروا شيئاً من الفانتازيا، أن يجدوا طريقة لبقة لتغيير الدستور … سنبقى مع هذا العجوز الضرّاط حتى العام 2036!”.
وتروي المراسلة السويدية هذه في رسالتها من موسكو، التي عنونتها “الروس يُنكّتون أكثر عن بوتين في الجحيم”، بأنها سألت مدرب إبنتها الرياضي عن رأيه بتصفير رئاسات بوتين، فأجابها بنكتة تقول “دخل رجل على صديقه لاهثاً، وقال بأن “عصابة اختطفت بوتين، وتطالب بمبلغ 5 ملايين دولار كفدية، وإلا سوف يصبون البنزين عليه ويحرقونه! وها نحن نجمع من كلٍ حسب قدرته. أجابه صديقه: للأسف، أنا لا أستطيع تقديم أكثر من 5 ليترات بنزين!”
وتقول المراسلة أن صفحتها في وسائط الإنترنت امتلأت في اليوم التالي بالنكات، التي تتحدث عن عقاب بوتين في الجحيم، لما اقترفه بحق روسيا. من بين هذه النكات واحدة تقول: “مات بوتين. فإلتقاه المسيح وقال له: سأدعك تدخل الجنة، لكن عبر المطهر، حيث ينتظرك هناك شياطين يغتصبونك بعدد المرات، التي كنت فيها رئيساً لروسيا. فكر بوتين أن 6 مرات إغتصاب مقابل الجنة ليس بالأمر الكثير. أوصلوه إلى الشياطين، لكنه فوجئ بوجود تيريشكوفا جالسة هناك. “وهذه ماذا تفعل هنا” – سأل بوتين. “هذه سوف تصفر عدد مرات الإغتصاب” – أجابه الشياطين.
النكات المريرة هذه، التي تعبر عن ما يعانيه الروس المعارضون لانقلاب بوتين على الدستور الروسي، كما يسميه علماء روسيا ومحاموها وصحافيوها وكتابها وفنانوها، في الرسالة المفتوحة، التي وجهوها إلى ” مواطنينا، والنواب على مختلف المستويات، والسياسيين، والناشطين الإجتماعيين، وبالطبع إلى قضاة المحكمة الدستورية، الذين حلفوا اليمين على نص الدستور الحالي”. وكان عدد الموقعين على الرسالة قد بلغ 357 شخصاً حتى 16 من الجاري، حسب موقع “ZNAK” المعارض، الذي نشر الرسالة مع أسماء الموقعين عليها، ومن بينهم أكثر من عشرين عضواً مراسلاً في أكاديمية العلم الروسية. واعتبرت الرسالة، أن روسيا مهددة بأزمة دستورية عميقة، وانقلاب معاد للدستور مموه بشرعية مزيفة، واعتبرت أن ذلك سيفضي إلى كارثة شقاق قومي جديد.
وكان بوتين قد أطلق إنقلابه هذا على الدستور في 15 كانون الثاني/يناير الماضي، في رسالته السنوية إلى البرلمانيين الروس، وبدأ عمليته الخاصة ثنائية الخطوات، التي يعتبرها مركز كارنيغي موسكو، “أكثر عملياته متقنة الحبكة ” طيلة عهده في حكم روسيا. وخلال الشهرين المنصرمين غرقت السياسة الروسية في التخمينات والتساؤلات عن هدف التعديلات الدستورية، وعما سيكون عليه وضع بوتين يعد انتهاء ولايته الحالية العام 2024: هل يبقى أم يرحل؟ هل ستجري إنتخابات برلمانية مبكرة أم لا؟ هل يتشكل مجلس دولة ويرأسه أم يرأس مجلس الأمن القومي. وأطلقت محاولات تفسير ما يجري سيناريوهات وتوقعات مناقضة لبعضها البعض. وكان بوتين في هذه الأثناء يرسل إشارات ضبابية عن أهمية تبادل السلطة، في ظل التوقعات ببقائه إلى الأبد، حسب كارنيغي.
في عملية بوتين الخاصة ثنائية الخطوات أو المراحل، التي يتحدث عنها كارنيغي، وضع بوتين نصب عينيه من خلال الخطوة الأولى إكتساب اقصى شرعية ممكنة للتعديلات الدستورية، من خلال ترك النقاشات حولها تدور عن أي موضوع، الله، السيادة، الأسرة، سن التقاعد، مجلس الدولة، أي موضوع، لكن ليس تفصيل الدستور على مقاسه.
الخطوة الثانية من عملية بوتين الخاصة، محكمة الحبكة أكثر من كل عملياته طيلة عهوده، تمثلت في إخفاء فكرة تصفير عدد ولاياته عن النخبة السياسية والمجتمع، وتركيز الإنتباه على تبدل السلطة والبحث عن وريث له، مما منح بوتين أفضل الشروط لدفع عملية تجديد الدستور، ومنح البوتينية طابعاً دستورياً، وجعلها تبدو غير شخصانية يمكن استمرارها من دون بوتين. ونجح بوتين في كل ذلك، حسب كارنيغي، الذي ينقل عن مصدر مقرب من ديوان الرئاسة، أنه بعد إقرار تصفير عدد ولاياته، وتصديق المحكمة الدستورية على هذه التعديلات في جلسة إستثنائية عقدتها يومي الأحد والإثنين المنصرمين، لا أحد يستطيع التكهن بنوايا بوتين الحقيقية.
بعد عملية بوتين هذه في “تأبيد” نفسه، والتي فاجأت العجوز تيريشكوفا الجميع في الإعلان عنها، “بطلب من أشخاص طيبين”، انطلقت حركات الإحتجاج ضدها في العديد من المدن، التي تتوالى منها طلبات سحب صفة “مواطن شرف” من تيريشكوفا، وتغيير اسماء الشوارع والمؤسسات، التي سميت باسمها يوماً ما. لكن تيريشكوفا ليست سوى الواجهة، التي اختارها “أشخاص طيبون” لعملية الإنقلاب على الدستور، الذي ينظم المعارضون في موسكو وسان بطرسبورغ مظاهرات تأبين له، ويضعون أمام مقر المحكمة الدستورية في موسكو الزهور ترحماً عليه. لكن من السذاجة التعويل على حركة الإحتجاجات هذه، والمراهنة على قدرتها في التأثير على مسار الإنقلاب الدستوري لبوتين. والجناح الليبرالي من المعارضة، الذي وقف بحزم ضد دعوة بوتين لتعديل الدستور، ورفض الإنخراط في موجة النقاشات حولها، هو أيضاً أضعف من أن يكون له اثر يذكر في المرحلة الراهنة على مسار بوتين هذا.
لقد نجح بوتين في انتزاع غطاء دستوري ل “تأبيد” حكمه، وإضفاء شرعية دستورية وديموقراطية ما على البوتينية، التي أصبحت شبيهة بالخمينية الإيرانية، التي تتغطى أيضاً بشرعية دستورية وديموقراطية ما، وأصبح بوتين “الأبدي” بعد عملية التصفير، شبيهاً بالمرشد الإيراني علي خامنئي.