أمير كنعان
لا شك أن الصدمة التي تسببها الحرب تلعب دورًا مهمًا في تكوين نفسية الفرد والمجتمع المتأثر بها بشكل طويل الأمد قد يصل تأثيره حتى للأجيال التالية، ومن بين العديد من التغيرات النفسية التي تحصل في الحرب، قد تكون الصدمة من أهمها على الإطلاق.
يمكننا القول إن من أهم ما يميز اضطرابات الصدمة عن غيرها من الحالات النفسية هو كونها تصيب الناس العاديين “الأصحاء”، لا المعانين فقط من حالات وراثية أو بيولوجية ولدوا بها، أي أن مخاطرها تهدد الجميع بشكل مباشر أو غير مباشر، وفي حال لم يتم حل الصدمة، فقد يؤدي ذلك إلى خسارة الفرد فائدته لنفسه ووسطه ومجتمعه.
وبالرغم من وقع الحرب السورية الثقيل على النفوس، لم تتشكل حقًا أدبيات علمية تتفحص الحالة السورية. ولا ريب أن العامل المتأني في المجتمع المدني السوري يشعر بضغط الميدان من أجل توليد أدوات علمية رصينة لدعم التدخلات النفسية التي يتم تقديمها للسوريين، كما يستشعر الأكاديمي في الأوساط السايكولوجية حاجة الأكاديميا لأبحاث علمية محكّمة عن الحالة السورية والسوريين. وفي التقاطع بين نظرية الأكاديميا وعملية الميدان، يقع من يحاولون إغناء هذه المساحة المشتركة.
بدأنا مؤخرًا بالنشر في المجلات العلمية عن الموضوع، ولنا خطط في المستقبل بالنشر أكثر، كما بدأنا الخطوة الصعبة بمحاولة دمج ترتبات هذه الأبحاث مع النموذج الحاكم للتدخلات النفسية في سوريا. في هذه المقالة أود التكلم عن الصدمة وسياقها في الحرب السورية، وأن أستعرض الأبحاث التي قدّمت عن الموضوع.
الصدمة
يميز علم النفس بين الصدمة كحدث، واضطراب الصدمة كحالة نفسية. نقول عن الحدث الثقيل والمهدد للحياة أن صادم، وفي حال تطور عنه “اضطراب” وأعراض نفسية ناتجة عنه نقول أن هذا “اضطراب” صدمة. يوجد العديد من أنواع اضطرابات الصدمة، لكن في معظم الأحيان يقصد بصدمة الحرب علميًا أنها “اضطراب ما بعد الصدمة” (PTSD)، الذي كان حدثه المُسَبِبُ هو الحرب.
حسب المرجع الأساسي حاليًا لتشخيص الاضطرابات النفسية (DSM-5 2013)، يُعرّف “PTSD” على أنه اضطراب نفسي يصيب المرء بعد مواجهته حدثًا مهددًا لشخصه أو حياته بالخطر. وعلى الأعراض أن تحقق معايير معرّفة ومعينة بوضوح من أجل أن يتحقق التشخيص، وعلى الحالة أن تكون ذات أثر سلبي واضح على مجالات حياة المرء (الاقتصادية، الاجتماعية…)، وعليها أن تكون قد استمرت لأكثر من شهر دون أن يكون ما تسبب بها عقاقير طبية أو كيميائية.
تترواح الأعراض ما بين “مقتحمة” (ككوابيس حيّة، توميض “flashbacks”، أي تذكر تفاصيل من الحدث بشكل حي جدًا كما لو أنه يحصل الآن…)، و”تجنبية” (كتجنب الأحاسيس أو المواقف التي تذكّر بالحادث…)، و”مزاجية” (كصعوبة اختبار المشاعر الإيجابية…)، و”رد فعلية” (كاليقظة الحادة، الأرق، صعوبة التركيز…). كما قد تتحقق لدى الشخص درجات عالية من عوارض “انفصالية”، والتي تعني عادة “الانفصال عن الذات”، أي الشعور كما لو أن المرء يرى نفسه من خارج جسده، كأنما هو يعيش في منام، و”الانفصال عن الواقع”، وهو اختبار الحياة بشكل مشوه وضبابي وغير واقعي كما لو أن المرء لا يصدق واقعه.
شهدت ما قد يصل إلى مئات الحالات من هذا الشكل، وأثق أن العديد من القراء السوريين شعروا بانطباق هذه الأعراض عليهم نفسهم. في الحقيقة، توحي الأبحاث التي نفذناها بأن حوالي نصف السوريين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة (Kanaan et al., 2019). وأعقّب هنا أن ليس كل من يواجه حدثًا صادمًا يطور اضطرابات صدمة، بل على العكس تمامًا، فقط 10% ممن يواجهون صدمة يطورون اضطرابًا، ما يعكس أن الإنسان كائن منيع نفسيًا بطبيعته. إلا أن ما يستثنى من ذلك صدمة وحيدة تكسر القاعدة مع الأسف وهي صدمة الحرب أو العنف العام، حيث ترتفع النسبة حتى 30% إلى 60% (Breslau, 2009).
وتختلف التدخلات العلاجية لمواجهة “PTSD”، ما قد يبدأ بالعلاج المعرفي السلوكي، وما قد ينتهي بالعقاقير الطبية. وتعطى العقاقير حسب الحاجة، وأحيانًا تكون مهدئات أو منومات أو مضادات اكتئاب أو مزيجًا فيما بينها. وأود هنا التشديد على أن العقاقير تعتبر المناص الأخير في رحلة العلاج، وهي محددة الجرعة ولا تصرف إلا بوصفة طبية من طبيب نفسي مرخص.
يحتاج تقديم التدخلات العلاجية إلى مختصين مدربين على ذلك. في العديد من الدول، لا يمكن أن يقدم علاجًا معرفيًا سلوكيًا سوى خريج ماجستير في علم النفس العيادي مسجل في غرفة علماء النفس الوطنية ويحمل شهادة معترفًا بها في العلاج المعرفي السلوكي. يعتبر العلاج المعرفي السلوكي من أكثر المناهج علمية واستقرارًا. أما بالنسبة للعقاقير، فلا يمكن صرفها إلا بعد المرور عبر طبيب نفسي (وهو مختلف عن عالم النفس، إذ إن الطبيب يتخرج بشهادة طب كالطبيب العادي). ينسق عالم النفس مع الطبيب النفسي لتحويل بعض الحالات للأخير في حال ارتأى الأول وجود الحاجة لتدخل العقاقير الطبية. نعاني في سوريا من شبه انعدام لهذه الاختصاصات حاليًا، ما يضطرنا في معظم الأحيان للبحث عن بدائل تدخلية غير اختصاصية لمواجهة هذه الاضطرابات.
الحالات النفسية الأسوأ التي تتسبب بها الحرب تصيب الديموغرافية التالية بالشكل الأشد:
- اللاجئين من النازحين قسريًا داخل بلدهم.
- أو الذين أُعيدوا قسريًا إلى بلد هربوا منه.
- أو أولئك الذين يشهدون نزاعًا لم ينتهِ بعد. ومن هؤلاء تحديدًا: غير الموظفين وغير المستقرين حاليًا، الأعلى سنًّا وتعلّما، المنحدرين من هرمية اقتصادية اجتماعية أعلى قبل الحرب إلى أدنى بعد الحرب، المقيمين سابقًا في الأرياف، وبشكل أشد للنساء أكثر من الرجال (Porter & Haslam, 2005).
يعتبر “اضطراب ما بعد الصدمة” أحد أشهر الاضطرابات في علم النفس، لكنه ليس هو الوحيد الذي تغذيه الحرب، بل هناك أنواع أخرى، منها مثلًا ما يدعى بـ “الصدمات والضغوطات التراكمية” (CST)، وهي حين “تتراكم” عدة صدمات فوق بعضها، أي حين يكون الشخص مصابًا بأكثر من نوع صدمة، مشكّلة حالة جديدة من اجتماع الصدمات العديدة تلك. وتختلف ديناميات الصدمات التراكمية عن ديناميات الصدمات الفردية المشكلة لها. قد يعاني أحد الأشخاص من صدمة حرب بالإضافة لصدمة ترك/نبذ من قبل الأهل في الطفولة، أو صدمة هوية جمعية كالتمييز الإثني/الطائفي/العنصري…
عن أبحاثنا في الصدمة السورية
أعمل مع منظمة “نقطة بداية”، وهي منظمة سورية غير ربحية تعنى بالتنمية الاجتماعية والأبحاث التخصصية مقرها تركيا. تتعاون منظمتنا مع “مركز دراسات الصدمة التراكمية” وهو مركز بحثي تخصصي في شؤون الصدمات والحروب ومقره الولايات المتحدة، وقد تكلل تعاوننا عن طريق أبحاثنا المشتركة في سايكولوجيا الصدمة.
ولما رأينا أن الوسط السوري يعاني من شح شديد في الاختصاصيين، وجدنا أنه من المفيد البحث في ما قد يساعدنا بتوليد بدائل تدخلية لا تحتاج إلى اختصاصيين. وقد عرف المجتمع المدني السوري مجالًا يسمى “الدعم النفسي الاجتماعي”، وهو عمليًا حين تقوم مبادرات مدنية محلية بتدخلات من أجل دعم الفرد نفسيًا، إلا أن هذا المجال اقتصر على تدخلات “تنفيسية” وغير اختصاصية بالضرورة (رسم، جلسات فضفضة…)، وكانت هناك دومًا مساحة لتحسين هذه التدخلات.
في “نقطة بداية”، بعد اتخاذنا طريقًا بحثيًا، انطلقنا من تفسير “الدعم النفسي الاجتماعي” باعتبار “المجتمع” قادرًا ليكون بديلًا عن دور الاختصاصي النفسي، وأخذنا نبحث عن المعايير البيئية الاجتماعية الأكثر مناسبة للتعامل مع المصدوم وتسهيل تعافيه. كما اعتبرنا “الفرد” كيانًا قويًا منيعًا في معظم الأوقات وقادرًا على تجاوز أزمته تحت ظروف معينة، ويكون على عاتقنا كباحثين البحث عن هذه الظروف. باختصار، أخذنا نبحث عن العوامل الاجتماعية والفردية التي تسهل التعافي من الصدمة والتي يمكن توظيفها دون الحاجة لوجود اختصاصيين.
في مقالنا الأول المعنون “The Dynamics Behind Low Posttraumatic Growth in Victims of Type III Traumas: The Case of Syrians and Palestinians. ديناميات النمو الضعيف لما بعد الصدمة لدى ضحايا الصدمات من النوع الثالث: حالة السوريين والفلسطينيين” (Kanaan et al., 2019)، قمنا بفحص ديناميات الصدمة السورية، أو بالأحرى ديناميات التعافي منها، على عينة من السوريين (عدد العينة= 179). يعتبر النوع الثالث من الصدمات هو النوع الأشد، حيث تكون الصدمة الكامنة وراءه مزمنة، مستمرة وممنهجة (كالعنف السياسي الممنهج والمعمم، الإبادة…). نود من خلال هذا البحث تحقيق فهم أفضل للمثبطات والمحفزات للعوامل التي تؤثر على التعافي من الصدمة.
لتحديد مجال بحثنا، قمنا بتحليل العلاقة بين العوامل التالية: “المناعة النفسية”، و”نمو ما بعد الصدمة” (PTG)، و”قلق الاندثار الوجودي”، و”اضطرابات الصدمة”. لنعرف كلًا منها حتى نوفر السياق المناسب.
المناعة النفسية، هو اسم البنية التي تقاوم الانكسار بعد الصدمة. إن استطعنا دعم المناعة النفسية، سنتمكن من مقاومة الآثار السلبية والمرضية للصدمة بشكل أفضل.
أما نمو ما بعد الصدمة، فهو حالة خاصة من النمو النفسي لا يصيب سوى أولئك الذين شهدوا صدمات. يختبر من يشهدون هذه الظاهرة “تجاوزًا” للصدمة ونموًا معنويًا وذهنيًا معتبرًا، وأحيانًا “مذهلًا” ينعكس على حياتهم وإنتاجيتهم بشكل واضح، ويبدو لهؤلاء كما لو أنهم غدوا يتذوقون الحياة ويختبرونها ويدركون معناها بشكل أفضل من حالهم حتى قبل الصدمة.
يعتبر نمو ما بعد الصدمة من العلامات الإيجابية لتجاوز الصدمة والتعافي منها. وأنوه هنا إلى أن كلمة “تعافي” قد لا تعطي ذات المعنى الذي قد يسوقه مجال الطب البشري (حيث يتخلص الجسم من المرض). قد يكون معنى “تعافي” في مجال الصدمات كما اختبرته أقرب لكلمة “تعايش” من “تخلص”، حيث يتعلم المرء أن يواجه الصدمة ويحيد مساوئها لا أن يهرب منها، ولا أن يلغيها تمامًا من حياته. أي فعليًا إعادة تدوير الطاقة السوداء إلى طاقة إنتاجية ودافعة نحو حياة أفضل. إن تحفيز نمو ما بعد الصدمة سيؤدي إلى تعافٍ صحي أكثر للمصدوم.
قلق الاندثار الوجودي، هو الرعب الشديد لدى الفرد من موته و اندثاره كشخص، أو موت واندثار المجموعة التي ينتمي إليها وإلغائها من الوجود، هو بنية جديدة نسبيًا على الأدبيات السايكولوجية، ويمكن مقاربته كالبنية النفسية الكامنة وراء حالات الإبادة الفيزيائية، تحديدًا في سياقات الحرب (مثل الهولوكوست، النزاع الفلسطيني، النزاع السوري…).
في بحثنا، أحد العوامل التي اكتشفنا علاقتها الوثيقة مع كل من المناعة النفسية و”PTG” هي بنية تسمى “إرادة الوجود والحياة والنجاة”، وهي حين يصمم المرء على المكافحة بـ”عناد” من أجل العيش وتجاوز أزماته التي تهدد وجوده ليكون كما يحلو له في حياة يحقق فيها ذاته.
اكتشفنا أيضًا أن قلق الاندثار الوجودي هو أهم عامل في استنباء الأعراض المرضية للصدمات التراكمية.
كما اكتشفنا أن العلاقة بين شدة “PTSD” و”PTG” ليست خطية بل أقرب لشكل القطع المكافئ، أي أن كلًا من الـ”PTSD” الشديدة جدًا والضعيفة جدًا ستعكسان نمو ما بعد صدمة ضعيفًا، بينما الـ”PTSD” المتوسطة الشدة ستعكس نمو ما بعد الصدمة الأعلى. بكلمات أخرى، الصدمة المتوسطة الشدة تبدو هي الأمثل لتحفيز نمو ما بعد الصدمة. ذات الشيء انطبق على العلاقة بين “PTSD” والمناعة النفسية، و”PTSD” والثقة بالنفس.
مكنتنا هذه الدراسة من لفت النظر نحو بنية يمكن توظيفها بشكل سهل لتقديم التدخلات على الأرض دون الحاجة لاختصاصيين، وهي بنية “إرادة الوجود والحياة والنجاة”. نستنبئ أن تحفيز العناصر المرتبطة بهذه البنية سيكون له إسهام معتبر على التعافي من الصدمة.
كما استطعنا تكوين فهم أفضل -موثق بالأرقام- للعناصر المرتبطة بالأعراض المرضية المستعصية للصدمة التراكمية، ولمسنا وجود قلق وجودي عميق من الإلغاء إما كفرد أو كهوية. ونستنبئ، دون مفاجأة هنا، أن البيئة التي توفر تهديدًا وجوديًا أقل للفرد أو لهويته، ستكون أفضل لتعافيه من جروح الصدمة/ات.
أيضًا، لفتت الدراسة النظر إلى دينامية مهمة، أنه حتى بالرغم من وجود مناعة نفسية و “إرادة الوجود والحياة والنجاة” عاليتين لدى السوريين، كان هناك نمو ما بعد صدمة ضعيف. نظن أن عامل الصدمة يتم مضاعفته بتكاثر الصدمات، ويغدو “متراكمًا” بعد اختبار العديد منها (مثال: صدمة الحرب، صدمة اللجوء، صدمة التمييز العنصري…). على مصممي التدخلات أن يعوا كون الصدمة التراكمية مختلفة عن اضطراب ما بعد الصدمة، المألوف عليهم، وتقديم تدخل جديد وممنهج يناسب هذه الحالة دون اعتبارها تمامًا على أنها اضطراب ما بعد صدمة لوحده.
على الاجتهادات التدخلية التركيز على مساعدة المصدومين لتكوين معنى أفضل لحياتهم. قد يكون هذا على شكل دفعهم لالتزامهم بقضيتهم السياسية أو الهوياتية. كل ما كانت القضية ذات معنى أكثر، كانت آثارها على التعافي من الصدمة أعلى. إذ إن من بين ما ترتب من بحثنا كتدخلات جماعية هو دفعنا باتجاه تقنيات “تنمية الهوية” لمواجهة القلق الوجودي الطباع وغيره من إسهامات الصدمة. كما أكّدنا على أهمية آليات العدالة السياسية من خلال دعم منظمات مجتمع مدني حقيقية وفاعلة في هذه المجال تستطيع أن تكون قريبة من المصدوم وحالته، وبذات الوقت تترجم تجربته في مناصرة سياسية وعدلية مؤثرة، ودائمًا ما أتخيل ذلك عبر شيء مثل تفعيل “منصة المصدومين” في الأروقة المطالبة بالعدالة والمحاسبة.
بنى هذا البحث على ثيمات من علم النفس العيادي والاجتماعي والوجودي. ونذكر أن نتائجه تحتاج لتفسير حذر نظرًا لكونها أبحاثًا ارتباطية لا سببية.
في مقالنا الثاني المعنون ” The Cross-National Validity and Structural Invariance of the Existential Annihilation Anxiety Scale الصلاحية العابرة للجنسيات والثبات البنيوي لمقياس قلق الاندثار/الإلغاء الوجودي” (Kira et al., 2020)، قمنا بالتحقق من الصلاحية العابرة للجنسيات للاستبيان الذي يقيس قلق الاندثار الوجودي، وثبّتنا ميزاته وعناصره ومعاييره العلمية. قمنا بجمع البيانات من عينة عابرة لخمس جنسيات تضمنت السوريين (عدد العينة= 1566). كما ذكرنا سابقًا، هذه البنية جديدة على الأدبيات، وقام بتقديمها الزميل الدكتور إبراهيم كيرا.
يتألف “EAA” من أربعة مكونات متمايزة عن بعضها سايكولوجيًا وكلها تتمحور حول “الهوية” وهي: قلق اندثار الهوية الفردية/النفسية (المسبب مثلًا من انهيار النظام الأخلاقي الداخلي الذي يعتنقه ويثق به الفرد- اندثار هوياتي داخلي)، قلق اندثار الهوية الجماعية (وهو الأقرب لمفهوم الإبادة، والمسبب مثلًا من الهولوكوست عند اليهود- اندثار هوياتي خارجي)، قلق اندثار المكانة الاجتماعية (المسبب مثلًا من الاستعباد أو الفقر المدقع)، وقلق اندثار الجسد والموت الفيزيائي.
لضمان أن هذه المكونات موجودة حقًا في السايكولوجيا الإنسانية وليست مخصصة لثقافة أو ديموغرافية جندرية أو إثنية معينة، يجب أن تظهر المكونات الأربعة أعلاه بشكل عابر للديموغرافيات كي نقول عن “EAA” إنه بنية “إنسانية” شاملة وليس مجرد بنية “سورية” أو “فلسطينية” أو “يهودية هولوكوستية” مثلًا، وهذا ما قمنا به فعليًا وأكّدناه. إذًا، القلق الوجودي موجود لدى الإنسان ككل، وليس شيئًا “سوريًا” لوحده، كل ما يختلف بين الجنسيات هو شدة القلق هذا، ولدينا الاستبيان الموثوق لقياسه بدقة.
كما عرفنا عن وجود ارتباط طردي بين “EAA” مع كل من “PTSD” والصدمات التراكمية والأمراض النفسية وضعف الصحة: كلما زاد “EAA” زادت شدة الصدمة والأمراض النفسية وضعفت الصحة.
من المثير للاهتمام أيضًا، أن “EAA” كان على علاقة عكسية مع التدين، أي إننا نشاهد بازدياد القلق الوجودي يقلّ مع تدين المرء، وكلما زاد تدين المرء قلّ قلقه الوجودي. نفس العلاقة الأخيرة شوهدت بين “EAA” و”إرادة الوجود والحياة والنجاة”، وأيضًا بين “EAA” والثقة بالنفس.
وبدا لنا أن أحد العناصر المكونة لـ”EAA” وهو “قلق اندثار الهوية الجمعية” مرتبط طرديًا مع قوة الهوية الجمعية التي يعرّف بها المرء نفسه، أي كلما عرّف المرء نفسه بقوة أكثر تجاه هوية جمعية ما (وطنية، سياسية، دينية، إثنية…) وجدنا ارتفاعًا في قلقه الوجودي الجمعي. وبالمقابل، قلق اندثار المكانة الاجتماعية وقلق اندثار الجسد/الموت، مرتبطان عكسيًا بقوة الهوية الجمعية (أي كلما ضعفت الهوية الجمعية للمرء، زاد القلقان المذكوران). قد يكون المبرر لهذه الظاهرة هو أن الهوية الجمعية تسهم بتوفير “راحة بال” للمرء تجاه مكانته الاجتماعية، بل قد تدعم مكانته هذه، وتسهّل له تعامله مع فكرة موته. بيد أن تكلفة ذلك تكون بتوليد قلق وجودي عالٍ لديه في حال تعرضت هذه الجماعة لتهديد بالإبادة.
مثل سابقه، بنى هذا البحث على ثيمات من علم النفس العيادي والاجتماعي والوجودي.
هكذا، باستخدام المنهجية العلمية الرصينة وقوة الإحصاء، يبدو عملنا كما هو وضع لقطع أحجية واحدة واحدة -ببطء لربما، لكن بثقة أكثر- حتى يتكون لدينا نموذج كامل للعوامل الحاكمة والمؤثرة والمتأثرة بالصدمة. حتى الآن، ملأنا جزءًا جيدًا من الأحجية وتقدمنا بمعرفة جديدة ما يكفي ليمكننا من ترجمة هذه المخرجات على شكل تدخلات فعلية ومفيدة على الأرض.
ننفذ هذه المشاريع البحثية دون تمويل من أحد، ويصعب علينا الوصول إلى عينات دون قدرتنا على تمويل نشرها وإذاعتها. استخدمنا في المرة الماضية استبيانات بحثية إلكترونية مفتوحة للجميع واستطعنا تنفيذ أبحاثنا من خلالها، ولذلك ندين بالشكر لكل من أسهم بملئها. اليوم نحن بصدد بحث جديد عن الصدمة، ولعله سيحمل فائدة مهمة للإحاطة بصدمة الحرب. أدعو الجميع لملئه بصدق وأمانة ومساعدتنا على مشاركته ونشره، يمكنكم اتباع الرابط من هنا: https://ee.kobotoolbox.org/single/::bzsawh8P.
نشجع دومًا المبادرات التي تدعم وتمول مشاريع البحث الأكاديمي التي لها أن تفيد السوريين بشكل حقيقي، وفي حال غيابها، ندعو السوريين وغيرهم من شعوب المنطقة للتعاون مع الباحثين ما أمكن، خصوصًا إن بدا عمل الأخيرين مدعومًا بالمنهجية العلمية الرصينة وقابلًا للترجمة العملية على الأرض.
مراجع
American Psychiatric Association. (2013). Diagnostic and statistical manual of mental disorders (DSM-5®). American Psychiatric Pub.
Breslau, N. (2009). The epidemiology of trauma, PTSD, and other posttrauma disorders. Trauma, Violence, & Abuse, 10(3), 198-210.
Kanaan, A., Kira, I. A., Shuwiekh, H., Kucharska, J., & Al-Huwailah, A. H. (2019). The dynamics behind low posttraumatic growth in victims of Type III traumas: The case of Syrians and Palestinians. Traumatology.
Kira, I. A., Özcan, N. A., Shuwiekh, H., Kucharska, J., Amthal, H. A. H., & Kanaan, A. (2020). The Cross-National Validity and Structural Invariance of the Existential Annihilation Anxiety Scale. Current Psychology, 1-12.
Porter, M., & Haslam, N. (2005). Predisplacement and postdisplacement factors associated with mental health of refugees and internally displaced persons: a meta-analysis. Jama, 294(5), 602-612.