عنب بلدي – علي درويش
بعد سيطرة حزب “البعث” على زمام السلطة في سوريا أواخر الستينيات، فُرضت على سوريا ثلاث موجات من العقوبات الاقتصادية، حاول النظام الالتفاف عليها.
كانت أولى هذه الموجات عام 1979 بسبب تصنيف سوريا من قبل الولايات المتحدة الأمريكية كدولة راعية للإرهاب، ثم عقوبات 2004 بعد الغزو الأمريكي للعراق، وإدخال قانون “محاسبة سوريا وإعادة السيادة اللبنانية” حيز التنفيذ، وآخرها فرض الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وبعض الدول العربية عقوبات أوسع بعد عام 2011.
الالتفاف سياسة قديمة.. لكن الظروف اختلفت
في إحدى المحاضرات الأخيرة عن قانون “قيصر” أشار أستاذ الاقتصاد والعلوم المصرفية في جامعة دمشق علي كنعان، إلى أنه في عام 1986 استطاعت سوريا تجاوز العقوبات، بالاعتماد على الشركات الصغيرة والمتناهية الصغر وعلى صغار التجار في تأمين السلع والخدمات.
إضافة إلى الاعتماد على الدول المجاورة وقدرة صغار التجار على استيراد السلع منها، بفاعلية أكبر من الشركات والتجار الكبار، وقدرتهم على عملية تحويل الأموال دون عمولات، حين يدفعون الأموال نقدًا.
لكن حلول الثمانينيات، بحسب ما تحدث به وزير الاقتصاد في “الحكومة المؤقتة”، عبد الحكيم المصري، لعنب بلدي، لن تجدي نفعًا على النحو الذي يحلم به النظام اليوم.
فاعتماد النظام على الدول المجاورة أصبح أقل فاعلية، إذ أثرت أزمة لبنان بشكل كبير على الاقتصاد السوري، بسبب عدم إمكانية حصول التجار أو السوريين المودعين أموالهم في المصارف اللبنانية على العملة الصعبة من حساباتهم، وبالتالي عدم استطاعة تأمين مستوردات سوريا من أي دولة كانت، أو استقبال قيمة الصادرات.
كما أن الحدود مع العراق تحت الرقابة الأمريكية حاليًا وبأي لحظة تستطيع قطع الطرقات وإغلاق الحدود السورية- العراقية، وتمثل ذلك عندما حاولت ميليشيات “فاغنر” الروسية الدخول إلى حقول نفطية واقعة تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، دمرتها قوات أمريكية ومنعتها من ذلك، إضافة إلى عدة أرتال نفطية استهدفتها الولايات المتحدة كانت في طريقها لمناطق سيطرة النظام.
أما بالنسبة للأردن فيصلها مع سوريا خط بري وتحت الرقابة بشكل واضح من الأمريكيين.
نظام فاقد لموارد البلد الأساسية
اختلفت الجغرافيا التي يسيطر عليها النظام بين موجة العقوبات الأولى والحالية، إذ فقد السيطرة على أجزاء من الأراضي السورية مهمة اقتصاديًا، وتحوي معظم ثروات البلاد.
وبحسب المصري، فقد النظام 85% من بترول سوريا، بسبب سيطرة “قسد” على مناطق دير الزور والحسكة، كما خسر الأراضي الزراعية في شمال شرقي سوريا، وشمالي وشمال غربي سوريا، بينما سابقًا كانت الأرضي السورية كافة تحت سيطرته، وكان يستطيع تحقيق اكتفاء ذاتي من القمح والنفط، لكن الآن يملك 15% من النفط ويغطي أقل من 20% من حاجته، إضافة إلى الديون الهائلة التي تراكمت عليه داخليًا وخارجيًا، في وقت انخفضت فيه معدلات الاحتياطي النقدي.
وكان إنتاج النظام من النفط 385 ألف برميل يوميًا قبل 2011، أما الآن فيبلغ حجم الإنتاج النفطي من المناطق التي استعاد النظام سيطرته عليها جنوب نهر الفرات 24 ألف برميل يوميًا فقط، بحسب ما ذكرته صحيفة “الوطن” المقربة من النظام في نيسان 2019.
شمول العقوبات قطاعات التمويل والطاقة (أساس الحياة الاقتصادية) والنقل، ومنع النظام من عمليات التصدير، أدى إلى عدم إمكانية تصدير الفائض، بجميع المجالات والقطاعات الزراعية والصناعية.
إضافة إلى عجز في موازنات الدولة، والعجز المتراكم حتى موازنة 2020 نحو ستة تريليونات ليرة (خمسة مليارات و581 مليون و395 ألف دولار)، يموَّل بالعجز وإصدار نقد من دون غطاء إنتاجي وديون داخلية تجاوزت 3.5 تريليون ليرة (ثلاثة مليارات و255 مليونًا و813 ألف دولار)، حسب المصري.
وبحسب الوزير في “الحكومة المؤقتة”، فإن الولايات المتحدة والدول الغربية على علم بهذه الالتفافات إن حصلت، وإن كانوا جادين بعقوباتهم، فهم قادرون على إيقاف المحاولات التي يستخدمها النظام حاليًا وسابقًا، عبر إغلاق الحدود البرية والبحرية ومراقبتها بشكل جيد، كإيقاف الباخرة الإيرانية المحملة بالنفط منذ تشرين الأول 2019، في قناة السويس.
أربع طرق يستخدمها النظام للتحايل على العقوبات
حددت وزارة الخزانة الامريكية أربع طرق كان النظام يتحايل فيها على العقوبات الأمريكية، لاستيراد المحروقات، وهي:
– تزوير مستندات الشحن والسفن، إذ تلجأ الشركات التي تورد المحروقات للنظام إلى تزوير سندات الشحن وشهادات المنشأ والفواتير وقوائم التعبئة وإثبات التأمين، التي تصاحب عادة معاملة الشحن، بهدف حجب وجهة الشحنات البترولية.
– النقل من سفينة إلى أخرى (STS) وهي وسيلة لنقل البضائع بين السفن في أثناء وجودها في البحر بدلًا من الميناء، وهو ما يمكن أن يخفي منشأ البضائع أو وجهتها.
– تعمد السفن التي تنقل المحروقات للنظام إلى تعطيل نظام التعرف التلقائي (AIS) وهو نظام تتبع أوتوماتيكي للسفن ويحدد هويتها وموقعها.
– تغيير مالكي السفن واسم السفينة في محاولة للتشويش على أنشطتها غير المشروعة، لهذا السبب من الضروري البحث عن أي سفينة ليس فقط بالاسم، ولكن أيضًا عن طريق رقم المنظمة البحرية الدولية (IMO).
قانون “قيصر” ضربة موجعة يُنتظر تطبيقها في حزيران المقبل
قانون “قيصر” هو مشروع قانون أقره مجلس النواب الأمريكي، في 15 من تشرين الثاني 2016، وينص على معاقبة كل من يقدم الدعم للنظام السوري، ويلزم رئيس الولايات المتحدة بفرض عقوبات على الدول الحليفة للأسد.
وتعود تسميته باسم “قيصر” إلى الضابط السوري المنشق عن النظام، والذي سرّب 55 ألف صورة لـ11 ألف معتقل عام 2014، قُتلوا تحت التعذيب، أكد مكتب التحقيق الفيدرالي (FBI) صحتها، وأثارت الرأي العام العالمي حينها، وعُرضت في مجلس الشيوخ الأمريكي.
وفي 21 من كانون الأول 2019، وقّع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، على موازنة وزارة الدفاع الأمريكية التي تتضمن قانون “قيصر” لحماية المدنيين، في قاعدة آندورز الجوية العسكرية.
ويشمل قانون العقوبات كل من يقدم الدعم العسكري والمالي والتقني للنظام السوري، من الشركات والأشخاص والدول، حتى روسيا وإيران، ويستهدف كل من يقدم المعونات الخاصة بإعادة الإعمار في سوريا.
ويدرس القانون شمل البنك المركزي السوري بالعقوبات المفروضة، مع وضعه لائحة بقيادات ومسؤولي النظام السوري المقترح فرض العقوبات عليهم، بدءًا من رئيس النظام، بشار الأسد، بتهمة انتهاكات حقوق الإنسان.
وتضم فقراته البحث في أفضل السبل لتقديم المساعدة للسوريين، مع تقديم الدعم للكيانات المعنية بجمع الأدلة للمحققين بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية الحاصلة في سوريا منذ آذار عام 2011.
ويمتاز هذا القانون عما سبقه بسرعة فرضه للعقوبات وقلة حجم الأدلة المطلوبة لتفعيله، وربطه التقدم بمجال احترام حقوق الإنسان وتطويرها في سوريا مع إمكانية رفع العقوبات.
اقتصاد الثمانينيات.. حرمان من مساعدات تتبعه عقوبات اقتصادية
دخلت سوريا عزلة اقتصادية ومشاكل كان لها أثر كبير اقتصاديًا في الثمانينيات (1980 و1990)، ففي العام 1980 سجلت الليرة السورية سعر صرف خمس ليرات مقابل دولار واحد، ووصل في عام 1990 سعر الصرف إلى 35 ليرة مقابل دولار واحد.
وكان هذا التدهور بسبب فرض عقوبات أمريكية على سوريا، تضمنت حظرًا لاستيراد مجموعة من السلع والمنتجات الامريكية، والأجنبية التي تدخل فيها مكونات أمريكية وتزيد نسبتها على 10%، كما جُمدت الأصول الحكومية السورية في الولايات المتحدة الأمريكية، وحرمتها من المعدات التقنية المصنعة أمريكيًا.
وأدى توجه الرئيس السابق، حافظ الأسد، لتأييد الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1980، ودعم إيران ضد العراق في حربهما (بين 1980 و1988)، إلى حرمان سوريا من المساعدات الخليجية التي كانت تقدمها دول الخليج عقب حربي 1967 و1973 ضد الاحتلال الإسرائيلي، بينما قدمت إيران مساعدات نفطية، ضلت طريقها عن خزينة الدولة السورية.
العقوبات الاقتصادية بعد ثورة 15 من آذار 2011
فرضت الولايات المتحدة والدول الغربية عقوبات اقتصادية على سوريا نتيجة استخدام قوات النظام القوة المفرطة ضد المتظاهرين السلميين عام 2011، ثم قصفها المدن والبلدات السورية بجميع أنواع الأسلحة، ومن بينها أسلحة محرمة دوليًا.
أثرت العقوبات الأمريكية والأوروبية عبر 15 حزمة عام 2011 على اقتصاد النظام السوري في عدة مجالات، سياسيًا بتركيز عقوباتها على شخصيات رسمية تقوم بدور فاعل في الأحداث والقمع الممارس، واقتصاديًا بحظر بيع النفط والمشتقات، وحجب الاستثمار الخارجي، وتجميد الأرصدة وتقييد نشاط المصرف المركزي، وبالتالي تقييد تعاملاتها التجارية الخارجية، وشل قدرة النظام المالية.
إضافة إلى فرض قيود على التعامل بالدولار الأمريكي، ومنع تصدير النقد السوري المطبوع في أوروبا، وتقييد عمليات الاستيراد والتصدير، وحجم الائتمان والتأمين، وفرض عقوبات على الشركات الأمريكية العاملة في سوريا، ووقف عمليات الاستثمار وتقديم المساعدات والاستفادة من البرامج التنموية الأمريكية والأوروبية، بحسب دراسة سابقة للاقتصادي السوري نبيل مرزوق، في مركز “الجزيرة للدراسات“.
من جهتها فرضت الجامعة العربية عقوبات تمثلت بحظر أي استثمار عربي في سوريا، وتشديد التعاملات مع البنك المركزي، ومراقبة التحويلات المصرفية والاعتمادات التجارية، وهو ما لم تطبقه دول الجوار وجعل تطبيقه أمرًا صعبًا.
وأدت العقوبات منذ العام 2011 إلى ارتفاع في سعر صرف الليرة السورية، ليصل إلى 1075 ليرة مقابل دولار واحد، بينما لم يتجاوز الـ50 ليرة مقابل دولار واحد بداية العام 2011.
وينتظر النظام بترقب حزيران المقبل لتطبيق الإدارة الأمريكية قانون حماية المدنيين “قيصر”، بعد توقيعه من قبل الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في كانون الأول 2019.