نبيل محمد
المشهد الموازي للفن السوري، والحقيقة المغيّبة في هذا الفن، هي الجزء الأساسي والأكثر حضورًا وتأثيرًا، والذي يحتاج دائمًا إلى تكشيف جريء وبسيط، يلغي تلك الهالة المرسومة حول معالم الفن السوري، المشهد الذي كان يسير دائمًا بقوانين صارمة وتوجهات واضحة، تتماشى مع ثورة الدراما السورية، التي أصبحت فيما بعد هي الحقيقة الواضحة لمن يرصد المنتج الفني في سوريا، بعيدًا عن حيثيات هي الأساس، والتي يمكن منها توصيف صناعة السينما والتلفزيون في بلد محاصر بمؤسسات الأمن والمخابرات. تلك الحقيقة كانت دائمًا بحاجة لمن يحكي تفاصيلها، ويشهد عليها كمرحلة مؤسسة لكل ما أنتج فنيًا في سوريا، ومن هنا تمامًا تبرز أهمية ذاكرة فنان مثل فارس الحلو، يعرف تمامًا أن عجلة الفن السوري انطلقت من معوقات هذا الفن، وأن حقيقة هذا الفن مغيبة خلف الشاشة الرمضانية التي توحي بازدهار طالما سوّقت له الميديا.
في “ضيف ومسيرة” عبر شاشة “فرانس 24″، قدّم فارس الحلو سلسلة استذكارية لتاريخ عمله في المسرح والسينما، رصد فيها ببساطة وواقعية تاريخًا من العقبات، والمنغصات، وتفاصيل السلطوية المخابراتية في التعامل مع الفن، ليجد بوصوح أن أكثر الأعمال الفنية التي يعتز بها، هي أعمال إما مُنعَت من العرض أو عُرضَت بعد سنوات من إنتاجها لتفقد ارتباطها المباشر بالمرحلة التي أُنتجت فيها. كل ذلك كان بسبب دوائر الرقابة الأمنية، التي من المستحيل أن تسمح لجملة في فيلم (الليل) مثل “يا خوفي بعد ما نموت أو نستشهد يجي كم عكروت يفاوض علينا” بالمرور عام 1993، خلال سريان مفاوضات السلام في مدريد، التي كانت من أهم نتائجها الدور السوري في حرب الخليج، وفق الفنان.
بين فيلم يتأخر عرضه، وآخر يُحرم من العرض حتى يومنا هذا (فيلم صندوق الدنيا لأسامة محمد)، ونصوص تُمنع، وسلطة تتغلغل في مفاصل الأعمال الفنية، يصف الفنان بلاده بأدق التوصيفات، منطلقًا في حديثه عن التغييب الإعلامي الذي كانت تعيشه البلاد، وتشويه المعلومات، واستغباء الجمهور، لتمر مجزرة كبرى مثل حماه مرورًا عاديًا، بينما استطاع النظام السوري في تلك المرحلة التخلص من جميع مناوئيه التقدميين والليبراليين قبل الإسلاميين الذين كان يدعي أنه يحارب التيار المسلح منهم فقط، وفق شهادة الحلو.
لم يعد هناك وصف للفنان بأنه جريء، لقد ألغت الثورة السورية هذا المفهوم، باتت الحقيقة واضحة أمام الجميع، وبات دور الفنان مختلفًا تمامًا عما قبل، لم يعد مؤديًا للأدوار بنصوص نقّحتها مكاتب المخابرات، وأشرفت عليها المؤسسات الرسمية التي وُضعت كرقيب صلب على الفن والفنانين. حتى تلك الفترة التي واكبت وصول الأسد الابن إلى السلطة، والتي أغوت الجميع بالانفتاح القادم، لم تكن سوى مصيدة وفق رأي الفنان، لمعرفة منتقدي النظام ومعارضيه.
“نحن لسنا ضحايا حرب نحن ناجون من المعتقلات.. نحن هنا بصفتنا ناجين.. الناجون هم كل من دخل المعتقلات وخرج حيًا بالمصادفة، وهم كل من تفادى الاعتقال، وهم كل من ركب البحر والجو تفاديًا للمعتقلات، وهم كل من خاف من المشاركة في الثورة خشية الاعتقال”. جاء ذلك في تعليق الفنان على دور يندرج في الأدوار الجديدة التي يمكن للفنان السوري لعبها، وهو دور حقوقي يلعبه فارس الحلو اليوم من خلال منظمة “الناجون من المعتقلات السورية” التي تهدف وفق الحلو إلى منع المجرم من الإفلات من العقاب، حيث لا عدالة بنجاة المجرمين، دور صعب للفنان بمسؤوليته في تقديم الحقيقة، حيث لا محطات ولا شاشات تسمح بقول الحقيقة وفق ما يراه.
في ذاكرة فارس الحلو الكثير، في ذاكرته مسرح متراكب، يضيع فيه العرض الحقيقي، وتتماهى أدوار الفنانين فيها ما بين الأداء والواقع، أدوار كتلك التي لعبها ممثلون سوريون في أثناء خدمتهم العسكرية في مسرحية عن الحركة التصحيحية، يتطوع فيها زهير رمضان (نقيب الفنانين اليوم) لكتابة النص خلال ساعتين وأداء البطولة فيها، بينما يصرخ ضابط يشاهد المسرحية بوجه فارس الحلو كيف لا يرفع قدمه فوق الطاولة في حضرة الرتب الكبيرة. أما جمهور المجندين فلا يصفّق مع ترديد شعارات البعث على الخشبة. لا يصفق فالعرض ممل للغاية.