منصور العمري
في فبراير/شباط الماضي، انتهت رحلة أرواح رفاقي المعتقلين المسجاة بالدم والصدأ على قماش أبيض في معرض “سوريا: نرجوكم لا تنسونا” بمتحف “الهولوكوست” بواشنطن. لا أدري إن أديت أمانة رفاقي المعتقلين حين قالوا لي: نرجوك لا تنسانا، وأنا أخرج من المعتقل تاركهم خلفي. لا أدري إن كنت أديت واجبي تجاه المعتقلين وأهاليهم وجميع السوريين، والإنسانية التي تجمعنا.
عملت مع متحف “الهولوكوست” بواشنطن في تجهيز المعرض ليتم افتتاحه في ديسمبر/كانون الأول 2017. قدم المعرض حقائق عن الاعتقال والتعذيب وآلة القتل المستمرة التي يديرها الأسد ونظامه ضد الشعب السوري. أغلق المعرض بعد عامين وثلاثة أشهر على افتتاحه، وتمديده ثلاث مرات للإقبال الجيد عليه. استضاف المعرض نحو مليون زائر خلال هذه المدة. تجول الزوار بين قطع القماش التي حملت أسماء 82 معتقلًا في الفرقة الرابعة، مكتوبة بالدم والصدأ، وخطها نبيل شربجي، الذي قتله سجانه في سجن صيدنايا فيما بعد، وهرّبتها في قميصي عند خروجي من المعتقل. حملتُ أسماءهم وأرواحهم من تحت الأرض في الفرقة الرابعة، إلى المخابرات الجوية، فالشرطة العسكرية وسجن عدرا، والأمن الجنائي، ثم عبرتُ بها دولًا وبحارًا ومحيطات، ومئات التقارير في الإعلام المطبوع والمرئي والمسموع بمختلف اللغات، والمنظمات الدولية، لتعرض في النهاية بواشنطن عاصمة السياسة العالمية.
على أنغام “راجعين يا هوى” التي كنا نغنيها همسًا في ظلمات إحدى زنازين الفرقة الرابعة تحت الأرض، دخل الزوار القاعة الأولى للمعرض التي تعرض فيلمي عن الاعتقال، وصور “سيزر” وجواله ووحدات التخزين التي هرّب بها الصور، ثم إلى القاعة الثانية التي عرضت خمس قطع قماش وعليها أسماء المعتقلين بالدم والصدأ، والمضاءة بـ82 مصباحًا خافتًا خلف جدران قماشية بيضاء رثة، ثم عبر الممر الذي اعتلت جداره قصة نبيل شربجي وكلمات أغنية “راجعين يا هوى”، إلى القاعة الأخيرة حيث جلسوا ودونوا ملاحظاتهم، مشاعرهم، تساؤلاتهم وتمنياتهم على أوراق محفوظة في المتحف. استمع الزوار وشاهدوا أحد المعتقلين عن قرب. قابلوه وجهًا لوجه وسمعوا قصة ناجٍ، من قلة قليلة من الناجين من معتقلات الأسد.
بالإضافة إلى زوار المتحف من الجمهور العام، زار المعرض مسؤولون حكوميون، وأعضاء في الكونجرس الأمريكي، ومستشارو الأمن القومي في البيت الأبيض، ومسؤولون دوليون، وأعضاء مجلس الأمن جمعيهم. استضاف المعرض أيضًا صحفيين ومجموعات مدرسية وجامعية وباحثين ومختصين في منع الأعمال الوحشية، وناشطين سوريين بمن فيهم الضحايا والناجون من الفظائع.
بالنسبة لجزء من الزوار، كانت أول تجربة معرفية حول ما كان يحدث في سوريا. بالنسبة لآخرين، كانت نظرة أعمق مما يرونه في الشاشات، وهذه المرة وجهًا لوجه مع قصة شخصية تضفي الطابع الإنساني على الصراع على مستوى حميم. كتب عديد من الزوار عن الإحباط الذي شعروا به إزاء تقاعس المجتمع الدولي وفشله الجماعي في تحقيق وعد “لن يحدث مرة أخرى” بعد المحرقة.
في الوقت ذاته، كانت أكبر جامعات الولايات المتحدة ومعاهدها ومراكز البحوث الرئيسة تستضيف عروض فيلم “82 اسمًا: سوريا نرجوكم لا تنسونا”، مع حلقات نقاش عامة ومنبر لمختلف الناشطين والحقوقيين السوريين والدوليين، عن مأساة المعتقلين وجرائم التعذيب والإخفاء القسري التي يرتكبها نظام الأسد.