أسامة آغي
من المتضرر من تفاهمات موسكو بين الرئيسين، التركي، رجب طيب أردوغان، والروسي، فلاديمير بوتين؟ هذه التفاهمات يمكن أن يقال عنها، أنها نتجت عن لحظة توازنات مؤقتة بين الطرفين، بسبب غياب دور بقية العناصر المؤثرة بمحتوى الصراع السوري ومآلاته، ونقصد ببقية الأطراف الطرفين الأمريكي والإيراني.
فالأمريكيون يترصدون كل مفاعيل تجري على معادلة الصراع في سوريا، ولا يدعون مسارها يفلت من أيديهم، وقد ظهر الموقف الأمريكي الرافض لتفاهمات موسكو بين تركيا وروسيا جليًا ضد محاولة موسكو شرعنة تفاهمها مع الأتراك حول إدلب، حيث بدا أن الروس يريدون تثبيت الوضع الجديد الذي تمّ نتيجة احتلال النظام السوري وحلفه الروسي- الإيراني لمناطق تخضع للضامن التركي، لكن الأمريكيين عرقلوا مع حلفائهم الغربيين صدور بيان عن مجلس الأمن يقبل بهذه التفاهمات، وطالبوا بأن تعود قوات النظام وحلفها إلى خارج حدود منطقة “خفض التصعيد” الرابعة، التي يضمنها الأتراك.
الإيرانيون هم أيضًا رفضوا رسميًا تفاهمات أردوغان مع بوتين، واعتبروا أن تلك التفاهمات تمّت خارج دورهم في مسار “أستانة” و”سوتشي”، وترجموا رفضهم بصورة عملية، من خلال دفع النظام السوري للاستمرار بعملياته العسكرية وبسط نفوذه على إدلب خارج هذه التفاهمات.
الروس لا يزالون يتحدثون عن “مسمار جحا” (هيئة تحرير الشام)، بضرورة إزالة تهديد هذا التنظيم، الذي يُصنّف بأنه تنظيم إرهابي.
إذًا، لماذا يمكن اعتبار تفاهمات موسكو، بين الأتراك والروس بأنها هشّة؟ الجواب عن ذلك يكمن في أمور عدّة، أولها، أن ذهاب تركيا إلى موسكو في 5 من آذار الحالي، كان ذهابًا اضطراريًا نتيجة غبش الموقف الأمريكي والأوروبي من تداعيات الحرب في إدلب، ونتيجة عدم تأييدهم الصريح، المادي والعسكري والسياسي لتركيا، وكأن هذا الموقف ينتظر صراعًا بين موسكو وأنقرة يتمّ استنزافهما فيه، وتخريب العلاقات بينهما.
لذلك يمكن اعتبار أن ذهاب تركيا لهذه التفاهمات مرتبط بتوازنات اللحظة القائمة، القابلة للتغيير مع تغير المعطيات العسكرية والسياسية، وهذا موقف عبّر عنه الرئيس أردوغان في حديثه أمام كتلة حزب “العدالة والتنمية” في البرلمان التركي، حيث قال: “موافقة تركيا على وقف إطلاق النار المؤقت، ليست بسبب عجزها عن مواجهة النظام السوري والتنظيمات الإرهابية، بل لرغبتها في إيجاد حل لأزمة إدلب، يمكن قبوله من جميع الأطراف”.
وبيّن أردوغان أنّ “التدابير التي تمّ التوصل إليها مع موسكو، بشأن إدلب، هي إجراءات مؤقتة”.
هذه الرؤية التركية هي رؤية تشتقها القيادة التركية وفق معطيات واقعية على مستوى التوازنات، وعدم الذهاب بعيدًا في صراعات تخدم أطرافًا أخرى، تريد أن تحدث هذه الصراعات لإنهاك تركيا.
أما موسكو، وهي الطرف الثاني في هذه التفاهمات، فلم تكن على يقين من قدرتها على فرض هذه التفاهمات على الغرب بقيادة الولايات المتحدة. فالروس يدركون أن هذه التفاهمات تخدم أجندتهم وفق مسار “أستانة” و”سوتشي”، هذان المساران يحققان للروس التفرد الواقعي بالحل السياسي في سوريا، وتتحول بقية الأطراف إلى شهود لا أكثر.
الإيرانيون يدركون أن تفاهمات موسكو لا تعمل لمصلحة أجندتهم في سوريا، ولهذا دفعوا حلفاءهم في النظام السوري إلى الاستمرار في شن الهجمات على إدلب لفرض حل عسكري، يعرفون أنه يخدمهم في الأيام المقبلة، عندما يتم الحديث عن حل سياسي في سوريا. الموقف الإيراني يصطدم بدرجة ما برؤية موسكو، ما يجعل العلاقة بين الحليفين الروسي والإيراني قيد التناقض والصراع المحتمل بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
الموقف الإيراني يجد امتدادًا له داخل صفوف النظام السوري، حيث هناك من ينحاز للرؤية الإيرانية على حساب الرؤية الروسية.
الرؤية الأمريكية ترفض تفاهمات موسكو، وفي الوقت ذاته لا تمنح تركيا سوى تأييد شكلي، فالأمريكيون برفضهم تمرير بيان من مجلس الأمن يؤكد على قبول تفاهمات موسكو، يريدون أن يذكّروا الجميع بعدم وجود حل سياسي في سوريا خارج موافقتهم، وهذه الموافقة تعني تقديم الرؤية الأمريكية لحل الصراع على بقية الرؤى. ولهذا اشترط الأمريكيون على الأتراك التنصل الحقيقي من صفقة “S400” مقابل تزويدهم بصواريخ “باتريوت”، أي إن الأمريكيين يريدون فكفكة التوازنات القائمة المتحكمة بالصراع السوري لمصلحتهم، وذلك عبر تخريب التحالف التركي- الروسي الطارئ كما يعتقدون.
الأوروبيون هم أضعف الحلقات في هذا الصراع، فهم لم يمارسوا تأييدًا صريحًا لتركيا وهي العضو الحليف لهم في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، هذا الموقف الأوروبي الضعيف، دفع القيادة التركية إلى الضغط عليه عبر السماح للاجئين بعبور تركيا إلى أوروبا، فتركيا لن تستطيع لوحدها تحمّل تبعات مئات آلاف اللاجئين الجدد إلى أراضيها، وهذا أدى إلى دينامية أوروبية مطلوبة، دافعها خوف أوروبا من تداعيات حرب إدلب.
وفق هذه الصورة الشاملة، يبدو أن الأطراف المنخرطة بالصراع السوري، تقترب شيئًا فشيئًا من تلمس حل سياسي، يتوافق مع معطيات القرار 2254، ولكن ليس قبل وضع وقف إطلاق نار شامل يتمّ عبر مؤتمر دولي، هذا المؤتمر هو ما يخرج “الزير من البير السوري”، وليس تفاهمات موسكو، ومن الطبيعي أن تحضر جميع القوى المنخرطة بهذا الصراع هذا المؤتمر، وهي الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا، ويمكن دعوة بلدان عربية ذات وزن في هذا الصراع إلى المؤتمر، إضافة إلى رعاية الأمم المتحدة له.
هذا المؤتمر ضرورة للجميع بما فيهم الولايات المتحدة، وذلك لمنع تحوّل هذا الصراع إلى صراع إقليمي ودولي، كما كان قد يحدث في مواجهات إدلب، التي كادت أن تُحدث مواجهة روسية- تركية، لن تخدم الاستقرار الدولي.
إذًا، تفاهمات موسكو لن تخرج الصراع السوري من مأزقه ككل، ويحتاج ذلك إلى تفاهمات دولية تقوم على قاعدة سحب كل القوات الأجنبية من سوريا، مع تنفيذ قرار مجلس الأمن 2254، وهذا يعني تشكيل حكومة انتقالية تتمثل فيها المعارضة السورية وجهات من النظام غير ضالعة بجرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية. فهل نصل إلى هذه العتبة التي يطوى فيها صراع دامٍ ومرير دفع ثمنه السوريون عذابات لا تنتهي؟ أم أن إرادة السلام لا تزال بعيدة المنال؟