كتبه نيك ثومبسون وجوناثان هاوكينز للـ CNN
مخيم الأزرق -الأردن
ميسون المليحان، 16 عامًا، باتت تعرف بـ ملالا سوريا إثر إطلاقها حملة لضمان حصول الفتيات في المخيمات الأردنية على التعليم.
إنها العاشرة صباح الثلاثاء، في بقعة من امتداد الصحراء الأردنية؛ وليس لدى ميسون المليحان متسعٌ من الوقت للتفكير بكل ما خسرته، إذ يشغل تفكيرها ما هو قادم.
تدرس ميسون الإنكليزية وتقول إنها تتلقى دروسًا عن الحاسوب، لكنه الصيف والدروس متوقفة، وأملها بأن تحصل على منهاج وكتب العام المقبل للمضي قدمًا في دراستها.
رغم أنك تشعر بأنها تستمتع بكافة المواد الدراسية، تفصح ميسون عن مادتها المفضلة، العلوم، وابتسامة ترتسم على وجهها قائلة “عندما أدرس العلوم، أتعلم أكثر عن العالم من حولي”، ثم تردف قبل أن تنسى مادتها المفضلة الأخرى “وبالطبع، الإنكليزية”.
من النادر أن تقابل فتاة في السادسة عشرة من عمرها تحمل هذا الكم من الاندفاع النقي والجامح للحياة والفرص المقبلة؛ والأشد ندرة أن تقابلها في مخيم بائس للاجئين على بعد 62 ميلًا من الحدود السورية.
تركت ميسون كل شيء خلفها وهربت مع والديها وثلاثة إخوة أصغر منها إلى الأردن، عندما بدأت الحرب الأهلية في سوريا تطبق على قريتهم في درعا عام 2013.
أمضت العائلة عامًا في مخيم الزعتري المكتظ والمضطرب معظم الأوقات، قبل أن تنتقل إلى مخيم الأزرق، الأكثر هدوءًا والأفضل تجهيزًا قبل قرابة عام.
تتشارك ميسون وعائلتها الإقامة في صندوق معدني معتم مساحته 76 مترًا مربعًا، صمم خصيصًا للمخيم حيث يتوافد 60 مهجرًا يوميًا.
ليس هذا ما يشغل ميسون حاليًا؛ في صف مؤقت في الأزرق، تستند على حافة مكتب وتتساءل كم من زملائها في الصف سينضمون للمدرسة عندما تفتح مجددًا في أيلول.
ارتفعت حالات الزواج المبكر بشكل حاد بين اللاجئين السوريين في الأردن على مدى السنوات الثلاث الماضية، من 18% عام 2012 إلى قرابة الثلث من إجمالي زيجات اللاجئين في 2014 بحسب اليونيسيف.
وإذ تستمر رحى الحرب الأهلية السورية الوحشية دون أن تلوح لها نهاية في الأفق، تزداد نظرة المهجرين السوريين اليائسين إلى الزواج المبكر على أنه وسيلة لتأمين مستقبل اجتماعي ومادي لفتياتهم.
ويقول المسؤول الميداني في اليونيسيف، ستيفن آلن، “إذا كنت أبًا أو أمًا، ورأيت فرصة أتيحت لطفلك قد تؤمنه ماليًا، سيكون قرارًا صعبًا للغاية”، ويضيف، “ليس خيارًا يتخذ في الأحوال الطبيعية، لكن بعض الأهالي يختارون اتخاذ هذا السبيل”.
ملالا سوريا
تعتقد ميسون أنهم يرتكبون خطأ فادحًا، وعلى مدى عامين كانت تدور من باب إلى باب، وتقوم بحملة بمفردها لإقناع الأهالي للإبقاء على فتياتهم في المدراس، بدلًا من الضغط عليهن للزواج.
“تعتقد عديد من العائلات أنهم يحمون فتياتهم بتزويجهن في عمر مبكر؛ لا يعلمون أن شيئًا ما قد يسير على ما لا يرام، وبحال فشل الزواج ستكون الفتيات في موقف ضعيف”.
“التعليم مهم جدًا لأنه الدرع الذي بإمكاننا استخدامه لحماية أنفسنا في الحياة، وهو طريقتنا لحل مشكلاتنا”، وتضيف ميسون “لا نستطيع الدفاع عن أنفسنا بدون تعليم”.
وأطلق على ميسون لقب “ملالا سوريا” إثر الحملة التي أطلقتها للإبقاء على الفتيات في المدرسة، في إشارة إلى الشابة الباكستانية الناشطة في مجال التعليم، التي نجت من هجوم طالبان على باصها المدرسي عام 2012.
زارت ملالا يوسف زاي مخيم الزعتري في شباط 2014، وسافرت ميسون إلى أوسلو لتشهد تسلّم يوسف زاي جائزة نوبل للسلام في كانون الأول.
وتشرق ملامح ميسون عند حديثها عن صداقتها مع الناشطة الأشهر في العالم في مجال التعليم.
“إنني فخورة جدًا بأن أنادى “ملالا سوريا”، وتضيف “ملالا شخص قوي ومتفانٍ جدًا، وواجهت صعوبات جمة في حياتها محاوِلةً نشر العلم، هذا يعطيني دافعًا قويًا لتقديم المزيد”.
كذلك تبدي يوسف زاي قدرًا مساويًا من الإعجاب بميسون، إذ قالت في تسجيل مصور لمفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، بث على يوتيوب العام الماضي، “كان من الرائع لقاؤها أثناء زيارتي لمخيمها”.
“لديها أيضًا أحلام كبيرة لبلادها؛ تريد أن تكون بلادها آمنة، وأن ترى السلام يعم كافة أرجائها”.
أوضاع في الحضيض
وتقول الأردن إنها فتحت أبوابها لـ 1.4 مليون سوري هجرتهم الحرب الأهلية الملمة بالبلاد على مدى السنوات الأربع الماضية، لكن 630 ألفًا منهم فقط مسجلون لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
والتعليم ليس سوى واحدة من مشاكل عدة تواجه هؤلاء السوريين، ويقول مراقبون إن الأوضاع تزداد قتامة كل يوم.
وأعلنت الأردن الأسبوع الماضي أنها استلمت فقط 12% من أصل 1.9 مليار دولار تقول إنها بحاجة لها لدعم من استقبلتهم من سوريين.
“يمكن للمجتمع الدولي أن يعول على استمرار الأردن بأداء دورها”، يقول وزير التخطيط الأردني عماد فاخوري، مردفًا “يجب ألا نترك وحدنا في هذا المجهود”.
وكان العجز في الميزانية مطلع العام الجاري، أجبر برنامج الأغذية العالمي على قطع المعونات الغذائية عن الـ 80% من اللاجئين السوريين في الأردن، المقيمين خارج المخيمات.
ولم يمس عجز الميزانية تمويل المخيمات، ومع ذلك تقول اليونيسيف بأن الجميع باتوا يعانون من الجوع.
“الأمور باتت أسوأ مما كانت عليه العام الماضي داخل المخيمات، بمقدورنا الاستمرار بتقديم خدمات اعتيادية هنا، إلا أن الموارد التكميلية للناس تستنزف بازدياد”، يقول آلن، “بعد أربع سنوات أوضاعهم في الحضيض؛ ينفقون مدخراتهم، وباعوا بعضًا من ممتلكاتهم، وأي مما وصلهم من دعم من أقربائهم قد نضب”.
ملاذٌ للجوء
تقدر نسبة الأطفال من بين 14 ألف نسمة يعيشون في الأزرق بـ 55%؛ وأحد أهم التحديات هو إيجاد وسيلة مثمرة لقضاء يومهم.
في ملعب على طريق المدرسة يضجّ المكان بصوت مألوف، الأطفال يتأرجحون ويلعبون كرة السلة ويتراكضون في الأرجاء.
“مكاني” هو ملاذ للأطفال من الضغوطات اليومية في حياة المخيم، بحسب مدير المشاريع لدى الهيئة الطبية الدولية في مخيم الأزرق.
ويضيف “عانى هؤلاء الأطفال خلال رحلتهم إلى الحدود، فالعديد منهم يعاني اضطراب ما بعد الصدمة PTSD، خسروا أصدقاءهم وعائلاتهم، وبعض منهم يريد فقط أن يترك بمفرده”.
“نسعى لتعزيز الترابط بين الأطفال، وتحسين قدراتهم على التأقلم، ونسعى لأن يكون هذا ملاذًا حيث يمكن للأطفال التعبير عن مشاعرهم وأحاسيسهم التي كبتوها داخلهم لوقت طويل”.
وكما كثيرون في المخيم، يأتى فتى نحيل ابن 12 عامًا، من درعا، ويقول، “أشتاق للسباحة أكثر من أي شيء”، ويضيف، “أشتاق إلى كل شيء في سوريا”.
وفي خضم الصخب خلال وقت اللعب في “مكاني”، يجلس طفل آخر يقرأ كتابًا بصمت.
“إنها قصة فأرة”، يشرح فيصل ذو الـ 15 عامًا، “تروي قصة فأرة صغيرة اكتشفت أن قطة كبيرة التهمت عائلتها”.
يقيم فيصل في مخيم الأزرق منذ 6 أشهر، وهو من الغوطة في ريف دمشق حيث قضى المئات صيف 2013 إثر هجوم بغاز السارين، عديد منهم أطفال، بحسب الأمم المتحدة.
“أكثر ما أشتاق إليه هو قريتي”، يقول فيصل، “منزلي هناك وأصدقائي هناك”.
لا يرتاد فيصل مدرسة نظامية في المخيم، بل يفضل حضور دروس غير رسمية في “مكاني”، ويود أن يصبح مدرسًا للإنكليزية حين يكبر.
“مكانٌ لا يليق حتى بالضباع”
تتجاوز الأرقام الحقيقة ما وثق بكثير، ومع ذلك من بين 220 ألف طفل في سن المدرسة مسجل لدى مفوضية اللاجئين، يتلقى 130 ألفًا فقط تعليمًا نظاميًا، ويبقى 90 ألفًا بدونه.
أخذتنا ميسون المليحان لزيارة إحدى هؤلاء الأطفال؛ شروق، ذات الـ 15 ربيعًا، تعيش مع والدتها وأخويها غير بعيد عن الملعب.
بقي والدهم في سوريا، وليس بمقدور مناهل، والدة شروق، سوى تأمين تكلفة اتصال هاتفي وحيد مع زوجها مرة في الشهر.
أما أخو شروق، عبد الله ابن الـ 13، يحمل دور الأب في العائلة، فلا يذهب إلى المدرسة ولا يسمح لها بالذهاب كذلك؛ وهذا ما يناسب شروق، فهي لا ترغب بمغادرة المنزل على أي حال.
تقول مناهل إنها تريد لأبنائها الذهاب إلى المدرسة، وتأمل أنهم سيحظون بحياة أفضل في المستقبل، رغم صعوبة تخيل ذلك الآن.
“هذا ليس ممكنًا هنا” تقول مناهل، “ما عساي أقول عن الأزرق؟ إنه قطعة من الصحراء.. لا أحد يعيش في مكان كهذا، ولا حتى الضباع”.
تتردد ميسون على العائلة مؤخرًا، ونجحت قبل أسبوعين بإقناع شروق وأخيها بأن عليها العودة إلى المدرسة في أيلول.
وتقول شروق بهدوء “شرحت ميسون أهمية التعليم لمستقبلنا”، مضيفةً “كنت أعلم ذلك مسبقًا، لكنها أقنعتني بذلك أكثر”.
سيتطلب عبد الله المزيد من الإقناع، وتقول ميسون “سأكلمه أكثر، وسأستمر بالحديث معه ومع أخته إلى أن أقنع كليهما بالذهاب إلى المدرسة”.
عينٌ على المستقبل
السبت الماضي، وفي يوم اللاجئين، أعلن أنتونيو غوتيرس، المفوض السامي لشؤون اللاجئين بأن قرابة 60 مليون شخص هربوا من بيوتهم في 2014، وهو أعلى رقم تحفظه السجلات.
ولكن حتى بوجه هكذا أخبار مكدرة، تفاجئنا ميسون بنبرة واثقة “لا أحد يعلم ما سيحصل في المستقبل، ولكن علينا أن نتحلى دومًا بالأمل، علينا أن نكون دومًا متفائلين”، وتتابع، “نسعى لتغير المستقبل وجعله يليق بحياتنا، هذا كل ما بوسعنا فعله”.
وما يخبئ المستقبل لميسون؟
“أود أن أصبح صحفية… باعتقادي هي مهنة جميلة جدًا”.
نشر في 26 حزيران وترجمته عنب بلدي؛ لقراءة المقال الأصلي اضغط هنا.
–