ما تبقّى من “كورونا”

  • 2020/03/08
  • 12:00 ص

إبراهيم العلوش

استحوذ فيروس “كورونا” على الأخبار وعلى التحليلات الإخبارية، وصارت فوبيا الفيروس تتفاقم، ولم تبقَ مساحة كافية لتداول أخبار السوريين ومعاناتهم في الشمال السوري تحت قصف الطائرات الروسية والميليشيات الإيرانية، أو وضعهم البائس عند الحدود اليونانية والبلغارية، حيث ينام الناس هناك في العراء بحثًا عن الخلاص من الجحيم.

في فرنسا اليوم، لا تستطيع الحصول على كمامة بسهولة، ولا على سائل التنظيف (تاتش)، واعتصم كثيرون في بيوتهم، وصار حديث الجميع، بمن فيهم اللاجئون السوريون، هو عن طرق العدوى وتأثيرها، وفوبيا الكراهية للصينيين الذين يأكلون الخفافيش، وما إلى ذلك من أوهام واتهامات تشبه اتهامات “الإسلاموفوبيا”، وتصنيف المسلمين كلهم كإرهابيين، بل إن مسيحيي الشرق وقعوا ضحايا في مستنقع الفوبيا الغربية.

طوال عقود، بنى الغرب رسالته على مبدأ حقوق الإنسان واعتبارها قضية جوهرية في إثبات وجوده عبر العالم، وكان شعار “حقوق الإنسان” رأس الحربة للقوة التجارية والعسكرية التي تجوب بحار العالم ومدنه، وكان لسقوط الشيوعية بشكلها الستاليني عام 1991 وقع كبير في التحليلات الغربية، باعتبارها معادية لحقوق الإنسان.

لكن السوريين الذين يعانون تحت القصف والتهجير القسري الذي دفعهم للجوء إلى الدول الأخرى لم يكن من تصنيفات حقوق الإنسان الغربية، فبشار الأسد نتاج مرحلة سياسية انتهجتها أوروبا والغرب عمومًا بدعم الديكتاتوريات واعتبارهم متعهدين لديهم لإسكات الشعوب المحيطة بأوروبا، وإبقائها عند نقاط الصفر السياسي والحضاري، عبر استلاب خيرات الدول وقمع القوى النامية وتصفيتها إن أمكن عبر مراحل طويلة من التعاون الغربي مع الديكتاتوريات، فبشار الأسد استقبل الرئيس الفرنسي، جاك شيراك، ووزيرة الخارجية الأمريكية، مادلين أولبرايت، قبل أن يصبح رئيسًا، في إشارة لمواقف الدولتين من عملية التوريث، وتمت عملية اغتصاب السلطة بيسر وسهولة بمعونة من الإعلام الغربي الذي كان يصور بشار كرئيس درس في بريطانيا ويحمل أفكارًا حديثة، وزوجته التي تظهر على الموضة وتمارس بروباغندا الجمعيات الحقوقية والإنسانية، بالقرب من فروع المخابرات التي تمتلئ بالمعتقلين وتتستر على من تمت تصفيتهم منذ الثمانينيات بحجة أنهم إرهابيون ومعادون للغرب، وما إلى ذلك من الأكاذيب المتفق عليها بين الطرفين.

ولا تزال إسرائيل هي الراعية الرسمية لنظام بشار الأسد ولممارساته الوحشية، بحجة أنها تريد أن تعيش بسلام قرب الذئب الذي يرعى قطعان الأغنام بحزم وبإخلاص أثبته حافظ الأسد واستمر فيه ابنه!

موجة “كورونا” ابتلعت كارثة تهجير مليون إنسان في الشمال السوري، وهي تبتلع الآن موجة معاناة أكثر من مئة ألف سوري في الغابات والبراري المحيطة بالحدود الأوروبية في اليونان وبلغاريا، ففي الوقت الذي يحتل فيه “كورونا” نشرات الأخبار، فإن حرس الحدود الأوروبيين يطلقون النار على المهاجرين السوريين بطرق عشوائية ليدفعوهم للموت في البرد والجوع، غير آبهين بهم ولا بحمايتهم من فيروس “كورونا” الذي تستنفر دولهم لمنع انتشاره.

الأوروبيون مهتمون بجائحة “كورونا”، وهم يغلقون المدارس ويمنعون التجمعات، ويتخذون الإجراءات اللازمة لمنع انتشار الفيروس، أو الحد من انتشاره على الأقل، خاصة أن القطط والكلاب صارت موضع شك ومتهمة بنقل “الكورونا”، وإذا حصل أي إثبات لتلك التهمة فإن ذلك يهدد بالقضاء على أكثر من 16 مليون كلب وقط يحظون برعاية شديدة.

هذه الهجرات، وخاصة هجرة السوريين من بلادهم، قد تكون إحدى نتائج سياسات أوروبا بعد المرحلة الاستعمارية، عندما دعمت أوروبا التسلط ومنعت التنمية لتظل تلك البلدان مرتبطة بالبضائع وبالسياسات الغربية، وحتى التطرف الديني ما هو إلا نتاج طبيعي لذلك التسلط العسكري والمخابراتي الذي حول البشر إلى الضياع والوهم والنبش في مزابل التاريخ عن مراجع تحجب الواقع وتعيده مخنوقًا إلى الفتاوى والاجتهادات القديمة التي ولّى عصرها وولّت مبررات وجودها.

في الظروف الصعبة يتجمع البشر ويبحثون عما يقويهم وعما يزيد من قدراتهم، لكن العالم في ظروف اجتياحات وباء “كورونا” يتجاهل بعضه بعضًا، ويترك الروس والإيرانيين يقتلون ويدمرون ويهجّرون السوريين وكأنهم متعطشون إلى هذه الوحشية منذ ألف عام أو أكثر، وها هم الأوروبيون يبدؤون بإطلاق النار على المهاجرين ويغرقون القوارب المطاطية الصغيرة بسفنهم القوية التي أرسلها حرس الحدود الأوروبي و”الناتو”.

في ستراسبورغ بفرنسا توجد محكمة حقوق الإنسان الأوروبية التي تتثاءب غارقة بالتجاهل لما يحل بالسوريين على حدود أوروبا، ويوجد البرلمان الأوروبي الذي يرفع شعارات حماية البيئة وحماية الحيوانات من الانقراض، ويدرس النواب مستقبل البشرية، ويوقعون العرائض التي تطالب السياسيين بالتحرك لحماية كوكب الأرض، ولكنهم يتجاهلون السوريين ومصائبهم، بل يشجع كثير من النواب والسياسيين الأوروبيين على استصلاح بشار الأسد وإعادة تجميله، ويطالبون بالضرب بيد من حديد على أطراف الحدود الأوروبية، وكأنهم يريدون كوكب الأرض نظيفًا وجميلًا وخاليًا من السوريين وأمثالهم من الشعوب المضطهدة!

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي