زيارة جيمس جيفري إلى إدلب.. ورسائلها للروس
أسامة آغي
لا يمكن المرور على زيارة الوفد الأمريكي إلى إدلب منذ أيام قليلة دون حسابات سياسية، فهذه الزيارة، تحصل في اشتداد التوتر والصراع في هذه المنطقة الحيوية المهمة، وتحديدًا بعد الهجوم الذي تعرّضت له نقاط المراقبة التركية. هذا الهجوم قامت به ميليشيات النظام السوري وحلفاؤها الإيرانيون بدعم جوي ولوجستي روسي، وهو أمر لعب دورًا تجاوز فعله حدود التفاهمات المنبثقة عن اتفاق “سوتشي” بين روسيا وتركيا عام 2018.
الزيارة المعنية، التي قام بها مبعوث الولايات المتحدة إلى سوريا، جيمس جيفري، برفقة كيلي كرافت، المندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة، والتصريحات التي خرجت عنها، توحي بجدية حضور أمريكي في ملف هذا الصراع، بصورة لا تزال حدودها العسكرية واللوجستية والسياسية غير واضحة بعد.
قال جيفري إن “تركيا شريك بحلف شمال الأطلسي، ومعظم الجيش يستخدم عتادًا أمريكيًا، سنعمل على التأكد من أن العتاد جاهز، ويمكن استخدامه”.
جيفري ربط مسألة الصراع العسكري في إدلب بتداعياته الإنسانية، إذ اعتبر أن العمليات العسكرية تسبب مأساة إنسانية في هذه المنطقة، وتسبب تهديدًا لتركيا التي يصرّ جيفري على تسميتها بالشريك.
تصريحات المبعوث الأمريكي أعقبتها تصريحات للسفير الأمريكي في أنقرة، ديفيد ساترفيلد، إذ قال إن “واشنطن تبحث طلب أنقرة للحصول على دفاعات جوية”.
التصريحات الأمريكية الخارجة من إدلب، تسمح بالقول إن الولايات المتحدة بإرسالها هذا الوفد الرفيع، تريد أن ترسل رسائل إلى الروس أولًا، وإلى الإيرانيين والنظام السوري ثانيًا، فحواها يتركز على محورين اثنين. المحور الأول، يعبّر عن انحياز أمريكي إلى الموقف التركي سياسيًا ولوجستيًا، وهو بصورة ما، يسمح بفتح تأويلات روسية، عن مدى جدية انخراط أمريكي متوقع في هذا الصراع، فالروس يخشون من تدخل عسكري أمريكي في لحظة من لحظات الصراع لمصلحة الأتراك، ولمصلحة قوات “الجيش الوطني السوري” التابع للمعارضة. المحور الثاني: تريد التصريحات الأمريكية أن تقول إن الولايات المتحدة مستعدة لتزويد تركيا بما يساعدها على استخدام أسلحتها الأمريكية، وهي أسلحة تستخدمها أغلبية الجيش التركي، كما تدّعي تصريحات جيفري، أي بمعنى آخر أوحى الأمريكيون أنهم لن يتخلوا عن تركيا في صراعها مع النظام وحلفه الإيراني الروسي، وأن تركيا هي شريك استراتيجي للولايات المتحدة، وتأتي تصريحات ساترفيلد بأن واشنطن تبحث طلب أنقرة، للحصول على دفاعات جوية، وكأنه يريد أن يقول إن تركيا طلبت “باتريوت” للدفاع الجوي، وإن بلاده تبحث الأمر، أي تنتظر موقفًا تركيًا أكثر ابتعادًا عن الاستراتيجية الروسية في المنطقة.
الأمريكيون يدركون دقة السياسة التركية البعيدة النظر بمسألة التحالفات الاستراتيجية، أو التحالفات المؤقتة، وهم يعرفون تمامًا أن تركيا ليست دولة تنتمي لدول العالم الثالث، وأن موقعها الاقتصادي العالمي، وارتفاع نسبة النمو الاقتصادي فيها، يؤهلانها للعب دور دولة من الدول الفاعلة على المستوى العالمي، ولهذا فالروس مضطرون للمفاضلة بين الحفاظ على علاقات متقدمة كبرى مع الأتراك، وبين الدفاع عن النظام السوري، الذي يتهمه المجتمع الدولي بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية.
الموقف التركي واضح هو الآخر، فهو موقف لا يريد الحرب لأجل الحرب، بل يريد الدفاع عن ضرورة إقامة منطقة آمنة، يلجأ إليها السوريون الرافضون لنظام بشار الأسد، وهي منطقة تساعد في إبعاد أي خطر عن الأمن القومي التركي، إذ أعلن قادة تركيا على مختلف مستوياتهم ذلك بصراحة، وهم، أي الأتراك، يحافظون بذلك على دورهم في الحل السياسي في سوريا، لا سيّما أنهم أكثر المتضررين من هذا الصراع على حدودهم.
الروس الذين انخرطوا في الهجمات على إدلب، وادعوا أن تركيا لم تقم بالتزاماتها بما يخصّ تعهداتها في سوتشي، كانوا يقصدون أن على تركيا أن تقبل التفسير الروسي لهذه الاتفاقية، وهو تفسير ينسفها من أساسها، ويحيل الدولة التركية إلى تابع لاستراتيجية روسيا في المنطقة وفي الصراع على سوريا.
الروس فوجئوا بالحشد العسكري التركي الكبير في إدلب، وفوجئوا أكثر بدقة وتطور الأسلحة التركية تكنولوجيًا، وصارت لديهم قناعة بأن تركيا لن تتراجع عن أمنها القومي، من خلال منع النظام من السيطرة على إدلب، إضافة إلى حساباتهم البعيدة، التي تتعلق بعدم التورط بحرب طويلة في سوريا، تلتهم قدراتهم الاقتصادية، وتسبب تداعيات سياسية داخلية.
وفق هذه الحسابات الروسية، سيضطر الروس إلى إيجاد تسوية جديدة مع تركيا بشأن إدلب، وهم مدركون أن هذه التسوية ستشمل منطقة “خفض التصعيد” الرابعة، والتي يصرّ الأتراك على منع أي وجود عسكري أو أمني للنظام فيها. هذه الحسابات ستقود إلى مراجعة روسية لدورهم السابق في الصراع السوري، وهو ما يعني أن إرادتهم بإبقاء ملف الصراع وحله بيدهم يجب أن يعاد النظر فيه لمصلحة مسار جنيف وفق القرار الدولي 2254.
إن زيارة جيفري ووفده الأمريكي إلى إدلب، هي دعوة للروس، أن يراجعوا موقفهم المناصر لخلق الفوضى في الشمال الغربي من سوريا، هذا الموقف المنحاز للقتل والتدمير والتغيير الديموغرافي، والمهدّد لأمن تركيا وأوروبا. كذلك هي دعوة للإيرانيين بضرورة خروجهم من سوريا، وأن حربهم في إدلب لن تنجح في فرض الحسم العسكري لمصلحة النظام السوري ومصلحتهم.
وزيارة جيفري إلى إدلب، هي بصورة أخرى، إعلان أمريكي صريح، بأهمية الشريك الاستراتيجي التركي للولايات المتحدة الأمريكية، وهذا يتضح من ضغط الدولة العميقة لديهم، من أجل مناصرة تركيا، وعدم السماح بانزلاقها لتحالفات مضرّة بسياسة حلف “الناتو”، ومضرّة بسياسة الولايات المتحدة استراتيجيًا.
وفق كل ما تقدم، يمكننا أن نقول إن الروس غير معنيين بخوض حرب ضد تركيا، هذه الحرب لو حدثت، ستفتح عليهم مواجهات دولية، ليسوا مستعدين لتحمل نتائجها، أو الوقوع بخسارة مدمرة لكل استثمارهم السابق في ملف الصراع السوري. وهو أمر ينسحب على تركيا، فالأتراك لا يريدون حربًا ضد روسيا، تغرق اقتصادهم ووضعهم السياسي في منعطفات غير محمودة على صعيد بناء ودور الدولة التركية في المنطقة والعالم.
إذًا نحن بانتظار تسوية سياسية جديدة، تحوّل إدلب إلى منطقة آمنة بموافقة أممية، تسوية تفتح الباب على مصراعيه لتنفيذ القرار الدولي 2254، فإذا لم يتم ذلك، فالحرب الكبرى هي الحل النهائي، هذه الحرب سيخسرها النظام السوري، ولن يكسبها الروس وحلفهم.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :