أسامة آغي
لا تزال كلمات وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، ساخنة، بشأن تأييد الولايات المتحدة لتركيا في تصديها لهجمات النظام السوري وحلفه الروسي- الإيراني في إدلب، إذ قال بومبيو، في 25 من شباط الماضي، إن “الرئيس دونالد ترامب أكد أن الولايات المتحدة ستتعاون مع تركيا بشأن إدلب، وإن النظام السوري لن يحقق نصرًا بتصعيد هجماته فيها”.
ولكن بومبيو لم يوضح معنى “تعاون الأمريكيين مع تركيا”، وهل هذا التعاون عسكري أم سياسي؟ أم هو مجرد تعاون سياسي؟ وربما كانت هذه مجرد تصريحات إعلامية، تقتضيها سياسة الولايات المتحدة حيال ما يجري من صراع حول مصير إدلب.
ولكن رفض الولايات المتحدة تزويد تركيا بمنظومة دفاع جوي من نوع “باتريوت”، يكشف عن حجم التباين بين تصريحات المسؤولين الأمريكيين الإعلامية المؤيدة شكلًا لتركيا، وبين مواقف إدارة البيت الأبيض المحجمة فعلًا عن دعم تركيا.
هذا التباين في الموقف الأمريكي، يكشف عن سياسة الولايات المتحدة الحقيقية حيال ملف الصراع في إدلب، ويمكن قراءته بغير الصورة التي يسوّقها الأمريكيون عبر تصريحاتهم، فالأمريكيون وفق هذا التباين، يقفون فعليًا مع اشتداد الصراع بين تركيا و”الجيش الوطني السوري” التابع للمعارضة السورية من جهة، وبين النظام السوري وحلفه الروسي- الإيراني من جهة أخرى.
لكنّ الهدف الأمريكي يذهب إلى الدفع بازدياد حدّة المواجهة بين تركيا وروسيا، فالأمريكيون لا يزالون ممتعضين من تقارب أنقرة مع موسكو منذ عقد صفقة بيع منظومة الدفاع الجوي الروسية “S400″، وهم يريدون من زيادة التوتر بين تركيا وروسيا فكّ التحالف المؤقت بينهما.
موقف حلف “الناتو” الذي يضم تركيا بين صفوفه كعضو، لم يفعل أكثر من تأييد تركيا سياسيًا، في وقت تتجاهل القوى الفاعلة في هذا الحلف أهمية الدور التركي في سوريا، هذا الدور هو ما يمنع روسيا من التمدد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وبالتالي فتخاذل حلف “الناتو” عن نصرة تركيا عسكريًا بصورة فعّالة يكشف هو الآخر عن مخاوف هذا الحلف من تنامي القوة العسكرية التركية، ويبدو وكأن هناك تناغمًا ما بين الموقف الأمريكي وموقف دول أوروبا الغربية الأعضاء في “الناتو” من مناصرة تركيا عسكريًا.
الموقف الأوروبي عبّرت عنه ألمانيا وفرنسا بالموافقة المبدئية على عقد اجتماع رباعي في اسطنبول، يضمهما إلى جانب روسيا وتركيا، هذه الموافقة المبدئية هي رفع عتب أوروبي حول موقفهم من خطر الصراع الجاري في إدلب، والذي لن ينعكس عبر موجات هجرة محتملة نحو القارة العجوز فحسب، بل ينعكس أيضًا سياسيًا وعسكريًا، بزيادة النفوذ الروسي في محيط أوروبا.
الموقف الأمريكي، والموقف الأوروبي الغربي، من الصراع في إدلب بين تركيا و”الجيش الوطني” من جهة، وبين النظام وحلفه الروسي- الإيراني من جهة أخرى، هو موقف متردد بين حالتين، الحالة الأولى هي مرحلية، وتتمثل بإحجام الأمريكيين والأوربيين عن مساندة تركيا بمواجهة روسيا في سوريا، هذا الإحجام قاعدته المتحكمة به هي خشية الولايات المتحدة وأوروبا الغربية من تنامي دور عسكري وسياسي واقتصادي تركي يقترب من الاستقلالية في المدى الاستراتيجي القادم، والحالة الثانية، تتمثل برؤيتهما بضرورة فرض فهمهم على السياسة التركية بمجملها، أي أن تتحول تركيا كبنية سياسية اقتصادية إلى حلقة من حلقات المحور الغربي، وليس حلقة مستقلة القرار السياسي والاقتصادي بما يخدم نمو الدولة التركية.
هذا الموقف الأمريكي- الأوروبي يدفع تركيا إلى البحث عن حسابات ممكنة في ظل ميزان قوى عسكري واقتصادي وسياسي بينها وبين الروس في سوريا، هذه الحسابات ترتكز بالدرجة الأولى على ضرورة عدم انجراف الأمور نحو مواجهة شاملة بينها وبين روسيا، لأن مثل هذه المواجهة تضرّ الطرفين، ويستفيد منها الأمريكيون وحلفهم الغربي.
ولكن الحسابات التركية لن تهمل مصلحة الأمن القومي التركي، وبالتالي فهناك إمكانية لتضافر عاملين اثنين، عسكري، ودبلوماسي، يعملان معًا للوصول إلى درجة مقبولة من التفاهمات مع الروس، بملف الصراع في سوريا.
الروس هم أيضًا، وخارج حسابات التصريحات النارية، معنيون بإيجاد صيغة سياسية وعسكرية مع الأتراك، تحافظ على ما دفعوا ثمنه كاستثمار في ملف الصراع السوري. عدم إيجاد صيغة تفاهم ملموسة مع الأتراك، يعني بالضرورة مواجهة احتمال تفاقم الصراع العسكري المكلف لهم ولتركيا، هذا الصراع المكلف لا نعتقد أن روسيا قادرة على تحمل نتائجه التي لا يمكن حسابها.
وفق ما تقدم، يمكن القول إن هناك مرونة مفقودة في الموقف الروسي وحساباته حيال الصراع في سوريا، هذه المرونة تتطلب مراجعة جدية للموقف الروسي من مفردات الصراع برمته، ونقصد بذلك الموقف من النظام وأهليته السياسية والقانونية، والموقف من المعارضة السورية من زاوية أخرى، إضافة إلى حسابات الروس بما ينتظر دورهم في هذه البلاد من مواجهات تأخذ أشكالًا مختلفة مع إيران وحلفها.
ويبقى السؤال الأهم: هل يستطيع الروس الفكاك عن ذهنيتهم السابقة التي تحكمت بانخراطهم المرير في الصراع السوري؟ وهل يستطيع الأتراك التغاضي بصورة جزيئة أو بصورة كبيرة عن مفهومهم لمسألة أمن دولتهم القومي؟
هذا السؤال يمكن الوصول إلى ضفاف مقنعة له، من خلال إقرار الروس بضرورة تفعيل قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254، هذا الإقرار يمنع عنهم نزيفًا مستمرًا في سوريا، وهو هدف أمريكي يعمل عليه الأمريكيون بنشاط.
أما في الجانب التركي، فتركيا معنية بإيجاد منطقة آمنة في إدلب، لإيواء سكانها، الذين تشردوا نتيجة هجمات النظام وحلفه الروسي- الإيراني عليهم، إضافة إلى عودة لاجئي هذه المناطق من تركيا، وإمكانية عودة أغلبية اللاجئين السوريين في تركيا إليها. هذه المنطقة الآمنة، التي يحمل الروس خرائط لها، لا تتجاوز حدود اتفاقية “أضنة” السابقة بين تركيا والنظام السوري، هي ما يجب أن يتفهم الروس ضرورة عقدهم اتفاقًا حولها مع الأتراك، ما يفوّت الفرصة على الأمريكيين الذين يريدون مواجهة بين تركيا وروسيا، وما يقرّب من إمكانية الحل السياسي وفق القرار 2254.
الأمور لا تزال قيد شد وجذب بين تركيا وروسيا، فهل يدرك الطرفان أهمية تقديم تفاهمهما على حساب مواجهة محتملة بينهما؟ الأيام القريبة المقبلة، هي التي تكشف الغطاء عما سيحدث.