عنب بلدي- نينار خليفة
“كانت قدم المراسل على رأسه وينعته بالإرهابي، أمعنتُ النظر أكثر إنه أخي، نعم إنه أخي”.. بهذه الكلمات يصف الشاب نائل (اسم مستعار) من مدينة حلب، مشهد التمثيل بجثة أخيه، الذي لم يفارق مخيلته طوال سبع سنوات، ولن يفارقها طالما أن القاتل لم يُحاسب، والعدالة لم تأخذ مجراها.
يصف نائل (الذي تحفظ على نشر اسمه الحقيقي)، في حديثه لعنب بلدي تفاصيل ما حدث، “عرفتُ أن أخي قد قُتل على يد قوات النظام مصادفة، عندما كنت أتابع تقريرًا يعرضه التلفزيون السوري، ويتفاخر من خلاله المراسل شادي حلوة بالقضاء على مجموعة من (الإرهابيين)، وصفهم هكذا لأنهم كانوا يُشاركون بمظاهرة سلمية تهتف بالحرية في بداية الحراك الثوري”.
انتهاكات بالجملة ارتكبتها أطراف الصراع السوري على مدى تسع سنوات من الحرب، تفننت خلالها بأساليب القتل والاعتقال والتهجير والاغتصاب، وغيرها من الجرائم الممنهجة، ظانين أنهم لن يُحاسبوا على أفعالهم، لكن “جرائم الحرب” لا تسقط مهما مضى عليها الزمن.
يمهد توفر الأدلة الدامغة والشهود وتوثيق الحقائق الطريق لتطبيق العدالة الانتقالية، التي تُتيح الملاحقات القضائية والمُساءلة وجبر الضرر وإصلاح المؤسسات الفاسدة.
وقد بدأت ملاحقات المحاكم الأوروبية في الدول التي لديها “مبدأ الولاية القضائية العالمية” لعدد من مجرمي الحرب في سوريا، إذ تخولها هذه الولاية التحقيق في “جرائم الحرب” و”الجرائم ضد الإنسانية” و”جريمة الإبادة الجماعية”، حتى لو ارتُكبت خارج أراضيها.
العدالة الانتقالية هي اتخاذ مجموعة كاملة من التدابير القضائية وغير القضائية لكفالة المساءلة، وتحقيق العدالة، وتوفير سُبل الإنصاف للضحايا، وتعزيز التعافي والمصالحة، ووضع رقابة مستقلة على النظام الأمني، واستعادة الثقة في مؤسسات الدولة، وتعزيز سيادة القانون. |
نائل اليوم لاجئ في ألمانيا، بعد أن اختار العيش في بلد يوفر له مقومات الشعور بالأمن والاستقرار، لكنه لا يزال يتطلع إلى اليوم الذي تتحقق فيه العدالة بسوريا، وتكون كرامة الضحايا وعائلاتهم مصانة بالقانون، ويعيشون في مأمن من تجاوزات السلطات، وتحت حماية فعالة من أي انتهاكات.
بصيص أمل
أنس الخولي، صحفي من الغوطة اختار أيضًا اللجوء لكن إلى فرنسا، هاربًا مما تعرض له من انتهاكات على يد فصيل “جيش الإسلام” وقوات النظام.
بسبب تغطيته لمظاهرات الغوطة التي خرجت في وجه العسكر مطالبة بإسقاط “جيش الإسلام” وسياساته القمعية، اعتُقل أنس وعُذّب وصودرت معداته.
يقول أنس في حديثه لعنب بلدي حول ما تعرض له، “اقتحموا منزلي واعتقلوني مع والدي، وفي أثناء التحقيق تعرضتُ للضرب والتعذيب، ووجهوا لي كلامًا بذيئًا، وتهمًا متناقضة، منها أنني أتعامل مع داعش ومع جبهة النصرة، وأنني كافر، كانوا يحاولون إلصاق أي تهمة بي من أجل قتلي”.
ويتابع، “سرقوا من منزلي جميع معداتي الصحفية، وعندما خرجت من السجن رفضوا أن يعيدوها لي وقالوا إنها ذهبت لبيت مال المسلمين”.
يؤمن أنس بأن تطبيق العدالة الانتقالية في سوريا ممكن عند تغيير النظام الحالي، وتوفر حكومة مدنية وقضاء عادل، ورغم ما شعر به من فقدان للأمل عندما هُجّر قسريًا من الغوطة على يد النظام السوري عام 2018، إلا أنه عاد ليشعر ببصيص منه مع اعتقال السلطات الفرنسية الناطق الرسمي السابق باسم “جيش الإسلام”، إسلام علوش، في 29 من كانون الثاني الماضي، بتهمة “ارتكاب جرائم حرب وجرائم تعذيب”.
سوريون منقسمون حول “العدالة”
رافقت حالة توقيف إسلام علوش وغيرها من حالات التوقيف في أوروبا بموجب “الولاية القضائية العالمية”، ردود فعل متناقضة من السوريين بين مرحب ومشكك، فقد وجد كل متهم فريقًا من المدافعين عنه والمشككين بنزاهة القضاء، ما أسهم بتفاقم الانقسامات المتجذرة أصلًا بين السوريين، فكيف يمكن تطبيق عدالة انتقالية شاملة في سوريا في ظل عدم وجود إجماع حول مفهوم العدالة بين السوريين؟
يرى مدير “مركز العدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، أن الدفاع عن المنتهكين أمر يحصل دائمًا، ويكون مبنيًا على آراء سياسية لا تأخذ بعين الاعتبار طبيعة ومشاعر وموقف الضحايا من الطرف الآخر.
ويشير في حديثه لعنب بلدي إلى أن هذا الأمر يعتبر تحديًا يضاف لتعقيد الوضع السوري، إذ لا يمكن الحديث عن عدالة قبل أن يكون هناك توافق مجتمعي يُبنى على أساس وجود خسائر لدى جميع الأطراف، وأن لكل منهم روايته ومواقفه حتى لو اختلفت معها البقية.
بينما يعتبر مدير منظمة “العدالة من أجل الحياة”، جلال الحمد، أن الدفاع عن المنتهكين أمر لا بد منه في ظروف أي حرب أهلية، وهو ليس حالة سورية استثنائية، ويلفت في حديثه لعنب بلدي إلى أن دفاع البعض عن المنتهك من أي طرف لن يعوق بشكل كبير ملف العدالة، الذي يختلف شكله وأدواته تبعًا لظروف البلد ومدى تعقيدها.
لكنه يشير في الوقت نفسه، إلى أن إرساء نظام العدالة الانتقالية عادة ما يكون بعد اتفاق شامل من جميع أطراف النزاع يعمل على إنهاء الحرب، ويقرر تحقيق العدالة وإعادة الحقوق للضحايا، وبالتالي فإنه يتطلب بالضرورة موافقة مختلف أطراف الصراع على إرساء هذا النوع من العدالة وإلا فإنه لن يتحقق.
ويوضح العبد الله في هذا السياق، أن الوصول إلى توافقات بين السوريين يتطلب بداية وقف إطلاق النار، والإفراج عن المعتقلين، وعودة اللاجئين، لافتًا إلى أنه في ظل عدم وجود توافق أو قبول لفهم مشترك وواقعي لمفهوم العدالة فإننا سنكون أمام وضع أكثر تعقيدًا، بحسب تعبيره.
تحديات أخرى لتنفيذ عدالة انتقالية
مدير وحدة الدعم بالقانون الدولي، في “البرنامج السوري للتطوير القانوني”، يوسف وهبة، يعتبر أن أهم تحديات تنفيذ عدالة انتقالية ذات معنى وحقيقية في سوريا، هو تغييب المتضررين المباشرين (الضحايا وذويهم)، عن صناعة القرار فيما يخص مستقبل البلاد.
ويؤكد وهبة في حديثه لعنب بلدي أن هؤلاء المتضررين، وحدهم من يمثلون حجر الزاوية الأساس في رسم شكل العدالة الانتقالية المناسبة والمتوافق عليها، على اعتبار أنهم أصحاب الحق الأساسي في مكونات هذه العدالة، والمتمثلة بالحقيقة، والعدالة، وجبر الضرر، وضمانات عدم التكرار.
ويرى وهبة أن اتساع رقعة الانتهاكات ومستوى الأعمال الوحشية في سوريا خلال النزاع، الذي أدى، وبشكل لم يحصل إلا نادرًا في التاريخ الحديث، إلى تضرر جميع الأفراد والقطاعات المجتمعية، تسبب بتمزق مجتمعي لا يمكن التعامل معه بمجرد حل سياسي أو تسويات عسكرية.
ومن جانب آخر فإن بقاء مستقبل سوريا رهينة بأيدي أطراف النزاع العسكريين والسياسيين، لا يمكن أن يمهد لعدالة انتقالية حقيقية، كون أي مسار للانتقال من حالة النزاع إلى ما بعدها سيكون مبنيًا على المساومات السياسية والعسكرية، وليس على معالجة حقيقية لأسبابه ومراعاة أصحاب المصلحة الحقيقيين.
وإضافة لتلك التحديات، لا يمكن الحديث عن تطبيق للعدالة الانتقالية في ظل تغييب المكونات المرتبطة بقضايا حقوق الإنسان عن مسارات التفاوض القائمة حاليًا، وإن استمرار الانتهاكات، يجعل من الصعب تنفيذ برامج مجتمعية تناقش موضوع العدالة، كما يخلق أجواء من المستحيل الحديث خلالها عن عدالة انتقالية بغياب إرادة محلية ودولية، وفق وهبة.
استراتيجيات تحقيق العدالة الانتقالية:
يمكن اتباع الاستراتيجيات التالية، لتحقيق أهداف العدالة الانتقالية بحسب “المركز الدولي للعدالة الانتقالية”، وهي تعمل وفق رؤية تكاملية فيما بينها لا كبدائل:
– الملاحقات القضائية: التي تطال المجرمين الذين يُعتبرون أكثر من يتحمل المسؤولية.
– جبر الضرر: ويشمل ذلك التعويض المادي والمعنوي المباشر عن الأضرار، ورد الاعتبار للضحايا، كالاعتذار العلني أو إحياء يوم للذكرى.
– لجان الحقيقة: وهي التي تجري تحقيقات بشأن الانتهاكات التي وقعت، وتصدر توصيات لمعالجتها، ومقترحات لمنع تكرارها مستقبلًا.
– إصلاح المؤسسات: وتشمل تفكيك مؤسسات الدولة القمعية كالشرطة والقضاء، وإجراء التعديلات الدستورية، لتفادي تكرار الانتهاكات أو الإفلات من العقاب.
الآليات التي يمكن اتباعها لتحقيق العدالة في سوريا
أثبتت التجارب السابقة في تطبيق العدالة الانتقالية لدى عدد من الدول في البلقان وأمريكا اللاتينية وغيرها، وجود أربع قواعد مركزية أسست لعدالة انتقالية فعالة في مرحلة ما بعد النزاع، بحسب الحقوقي يوسف وهبة.
يأتي على رأس تلك القواعد الضحايا وعائلاتهم، وهم جوهر عملية العدالة الانتقالية، إذ يجب تشكيل قنوات رسمية تسهم في انخراطهم بشكل وثيق بالتفكير والتخطيط والتنسيق لهذه العملية، وبالرجوع إلى التجربة الكولومبية الحالية فقد مُنحت عائلات الضحايا منبرًا أساسيًا وعمليًا في المناقشات على أكثر من صعيد.
ونصت على ذلك جميع الأدبيات القانونية الدولية، وكان آخرها القرار رقم “2474”، الذي بحث قضية المفقودين نتيجة النزاعات المسلحة، وطالب بالكشف عن مصيرهم وحماية المدنيين في جميع أماكن الصراع.
القاعدة الثانية هي التركيز على أهمية دور المرأة، وفق وهبة، إذ تشير تجارب العديد من الشعوب الأكثر نجاحًا في هذا السياق، إلى وجود قيادة جوهرية للمرأة أو مشاركة فعالة وحقيقية لها.
لكن في الوضع السوري يوجد تغييب وتهميش متعمد للمرأة ودورها، ويعتبر وهبة أن المستفيدين من بقاء النزاع الحالي، ومن عدم تطبيق عدالة انتقالية حقيقية، على وعي تام بما يمكن أن تحققه المرأة من تغيير، ولذلك فهم يجهدون في إبعادها عن المشهد.
القاعدة الثالثة التي يشير إليها وهبة تقول إن “الحقوق لا تتجزأ، والضحايا لا يمكن أن يكونوا طبقات”، ويتطلب قرار العدالة الانتقالية “شجاعة القبول بفكرة امتلاك الضحايا من جميع أطراف النزاع نفس الحقوق، إذ إنه دون وجود هذا الوعي ستتحول إلى عدالة انتقائية، بدل أن تكون انتقالية”.
أما معالجة أسباب النزاع، فهي القاعدة الرابعة، إذ إن أي آلية مستقبلية تُبقي على أسباب النزاع لا يمكن اعتبارها عدالة انتقالية إنما مجرد مرحلة في خط بياني ينخفض، لكنه يكون قابلًا للصعود مجددًا، وربما يتسبب بنزاع مجتمعي أشد وأخطر، وإن ضمانات عدم التكرار هي جوهر عملية العدالة الانتقالية، لأن هذه العملية ليست وساطة أو حلًا لنزاع آني أو عابر.
سيناريوهات تنفيذ العدالة الانتقالية في سوريا
يعتبر مدير منظمة “العدالة من أجل الحياة”، جلال الحمد، أن رموز النظام والمعارضة الحاليين ليس من مصلحتهم تطبيق أي نوع من أنواع العدالة في سوريا، ولن يوافقوا على إرساء العدالة الانتقالية، لأن هذه الرموز تقوم على الخراب، وأي اتفاق نحو استقرار لن يكون في مصلحتها ولن تسهم فيه.
بينما يرى مدير “مركز العدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، أن بقاء النظام الحالي هو السيناريو الأسوأ والأصعب لسوريا، إذ إنه يحول دون تحقيق أي عدالة للسوريين، حتى للضحايا من طرفه كونه غير مهتم حقيقة لأمرهم، وهو ما سيعمل على تعقيد المشهد، لأن النظام يعتقل عشرات الآلاف من السوريين ويخفي قسمًا كبيرًا منهم.
يوسف وهبة، يتفق مع العبد الله في كون النظام الحالي غير مهتم بأي عدالة انتقالية، ويرى أن “المصالحات الوطنية” التي حصلت في عدد من المناطق السورية، هي أوضح مثال حول نمط العدالة الانتقالية التي يسعى لها النظام، فهي ليست إلا معالجة موضعية لأوضاع على الأرض، الهدف منها فقط هو تعزيز مكانة النظام وتقويته، وبالتالي فهي لا تمت بصلة لمفهوم العدالة الانتقالية.
وإضافة لذلك، فإن حصر قضية المعتقلين والمختفين قسريًا في نطاق التبادل العسكري والمساومات السياسية، لا يمكن أن يشكل عاملًا مساعدًا للتحضير لعدالة انتقالية.
وقد كان التوجه نحو تعديل الدستور الحالي عبر اجتماعات “اللجنة الدستورية” التي عُقدت برعاية أممية، فرصة لطرح العدالة الانتقالية، بحسب وهبة، إلا أن تناول هذا الموضوع في ظل تواصل النزاع والانتهاكات، وغياب متعمد لأي إرادة سياسية حقيقية للعدالة، حال دون تحقيق أي إضافات إيجابية.