أمير البُزُق ومدرسته
نبيل محمد
لا شك بأن بُزُق سعيد يوسف كان أحد أسباب تمسّك جيل كامل من عشاق الموسيقى في الجزيرة السورية بآلة البُزُق، وهو المسهم الأول بانتشار موسيقى البُزُق لتكون واحدة من أهم حوامل الموسيقى الشعبية الكردية، فالبُزُق في القامشلي يعني سعيد يوسف، وهو الذي أتى بالآلة من اليونان، وطوّرها مشرّقًا أداءها أكثر فأكثر، ليكون فيما بعد أميرها، وترتبط صورته في ذاكرة جيل كامل بالبُزُق الذي تركه قبل أيام مغادرًا الحياة في اسطنبول.
كان سعيد يوسف صاحب هوية خاصة بموسيقى البُزُق، جعلته مدرسة ينحو نحوها مئات العازفين خاصة من أبناء القامشلي وأريافها. فرادته تلك لم تولد فقط بموجب تقنيات العزف على هذه الآلة ذات الحضور المميز كائنًا من كان يعزف عليها، وإنما كونه استطاع تطويعها في خدمة الفن الشعبي المحلي، وبناء مشروع موسيقي متكامل من خلالها، فمن الأحياء الشعبية ومناسباتها البسيطة من أعراس وحفلات سمر وما إلى ذلك، إلى المسارح والصالات، تنقّل سعيد يوسف لا يعينه شيء في هذه الرحلة الطويلة إلا البُزُق الذي يحمله. لم يكن ابن مؤسسة أكاديمية كبرى قادرة على دعمه وتمهيد الطريق له نحو كبرى المسارح في الداخل والخارج، لكنه ابن تجربته وعشقه لآلة لعلها لم تكن في صلب اعتبارات الموسيقى الأكاديمية في بلاده.
من عازف البُزُق الراحل محمد عبد الكريم، أمير البُزُق، ورث سعيد يوسف اللقب، كما كان من المفترض أن يرث بُزُق محمد عبد الكريم ذاته، الذي أوصى به له، موقنًا قبل وفاته عام 1989 أن آلة البُزُق ستبقى بخير طالما أن سعيد يوسف موجود، وهو ما لا يعود إلى كون سعيد يوسف عازفًا بارعًا استثنائيًا على البُزُق فحسب، بل كونه حمل مشروع الإنتاج الموسيقي باستخدام البُزُق، وجال به بين الإذاعات ومؤسسات الإنتاج من بيروت إلى دمشق، بمعنى أن إمارته للآلة ليست محض احترافية في العزف، بل إيمانًا بضرورة تطوير حضور الآلة، وتعليمها، وضمان خلودها بتوارث العزف عليها بين جيل وآخر، وهو ما يتطلب إنتاجًا موسيقيًا وغنائيًا في خدمة الآلة، ومحاولة تعزيز حضورها في أي فرصة متاحة، وهو بالفعل ما حمله ونجح فيه سعيد يوسف بامتياز، فخارج عائلته التي علّم منها ثلاثة أبناء العزف على البُزُق، تعلّم المئات العزف على هذه الآلة اتباعًا لمدرسته، أو تأثرًا بأسلوبه ورسالته.
حاول سعيد يوسف، خلال مشوار فني طويل، توظيف البُزُق في خدمة موسيقى متنوعة المشارب، من الكردية إلى العربية والفارسية والتركية، مغنيًا بعدة لغات ولهجات، ومقدّمًا ألحانه لعدة مغنين عرب وكرد وأتراك، لتبدأ إذ ذاك ألحانه بالانتشار الكبير الذي خرج عن إرادته هو نفسه، بمعنى أن ألحانه بدأت تُستخدم في أغانٍ وأعمال بمناطق مختلفة حتى خارج معرفته، وبات أسلوبه منهلًا للمئات، من أسماء مشهورة في ساحة الغناء التراثي والتجديدي، إلى أسماء لا يعرفها سعيد يوسف نفسه. غنى من ألحانه شفان برور، وعلي شان، وأينور دوغان، وغنت له سميرة توفيق “صبوا القهوة وصبوا الشاي”، بينما يبقى حضوره في أمسيات موسيقية إلى جانب عازف العود العراقي الراحل منير بشير في عدد من المدن الأوروبية واحدًا من أهم المشاريع الموسيقية التي عمل بها يوسف في سبعينيات القرن الماضي.
في جولة صغيرة عبر الشبكة ومكتباتها الموسيقية، يندر وجود تسجيلات أصلية لمؤلفات سعيد يوسف الموسيقية، ويقتصر ما يتوفر على مقاطع من حفلات سابقة له، عازفًا ومغنيًا، إضافة إلى جلسات خاصة يعزف فيها على البُزُق، ويبدو أن التسجيلات القديمة التي تتضمن أهم مؤلفات يوسف، أغلبها حبيس إذاعة دمشق حيث كان يعمل، الإذاعة الشهيرة ببخلها في إتاحة أرشيفها على الشبكة، وبسماكة الغبار فوق أرشيفها أيضًا.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :