بين السياسة والقانون.. والمصطلح أيضًا

  • 2020/02/25
  • 11:16 ص
اجتماعات "اللجنة الدستورية" السورية في جنيف - 30 تشرين الأول 2019 (عنب بلدي)

اجتماعات "اللجنة الدستورية" السورية في جنيف - 30 تشرين الأول 2019 (عنب بلدي)

زيدون الزعبي

بعد مداخلتي في الندوة التي عقدها مركز حرمون في الخامس والعشرين من شهر كانون الثاني 2020، ظهرت ردود فعل متباينة تراوحت بين المؤيد والمشكك والرافض لما قلته حينها، وهذا برأيي المتواضع ظاهرة إيجابية عمومًا كونها خرجت من إطار الشخصنة إلى عالم النقد البناء المستند إلى العلم والمعرفة. وكان هناك من استخدم السياسة والقانون فهل هما منفصلان؟ نعم ولا! فالقانون يحكم السياسة ويمنعها من التغول والاستفراد والظلم. لكن السياسة هي من تأتي بالقانون، والدستور يكتبه السياسيون تحقيقًا لمصالحهم من جهة ولوضع إطار قانوني لما سيقومون به مستقبلًا. إذًا هي السياسة والقانون، ولا يُقرأ النص من وجهة نظر القانون وحده بل من وجهة نظر السياسة والسياسة أولًا!

في معرض مداخلتي حول موضوع اللامركزية الذي أخذ بعدًا مهمًا بعد إنشاء اللجنة الدستورية، تطرقت إلى مسألة اللجنة الدستورية بعد وسمها من قبل بعض المحاضرين الأكفاء وذوي المعرفة بطبخة السم أو طبخة البحص، لأقول إنها ليست طبخة سم ولا طبخة بحص ولكنها طبخة سيئة كواقع سوريا والسوريين. هي طبخة سيئة في ظل جوع سياسي يسعى إلى المزج بين عدة طبخات سيئة علّها مجتمعة تسد رمق العملية السياسية المحتضرة جوعًا.

ذكرت في معرض مداخلتي ستة أسباب تجعل من اللجنة الدستورية طبخة يجب التفكير بها بدلًا من نسفها، والحقيقة أنني عرضت نقاطًا خمسة فقط، أما السادسة فهي ليست إلا دعابة “مُرّة” تشرح وتفسر النقاط الخمسة التي سبقتها وإن كانت دعابة ثقيلة الظل على ما يبدو.

قلت في النقطة السادسة إن من يريد من هذه اللجنة أن تسقط النظام بكافة أركانه ورموزه، عليه أن ينتظر حتى رمضان المقبل، ذلك أننا ومنذ تسعة سنوات ننتظر رمضان المقبل والعيد المقبل وليلة القدر لأن سقوط النظام قادم بسرعة، وما هي إلا إيام أو أسابيع وسنرى دمشق تشهد تحولها الكبير نحو الديموقراطية. ثم طال الزمن، رفض كثير منا بيان جنيف، ومن ثم عاد ليطالب به ورفض القرار 2118 ومن ثم عاد ليطالب به، ورفض القرار 2254 ومن ثم عاد ليطالب به، وهكذا حتى رأى بعضنا، وأنا منهم، اللجنة الدستورية منفذًا ضيقًا مشوها نحو الحل السياسي المنشود، لكنه يبقى المنفذ الوحيد حاليًا من وجهة نظري. هي السياسة هنا، والسياسة وحدها!

قلت في معرض مداخلتي إن هذه اللجنة لجنة أصلية تأسيسية وليست مشتقة وهذا استفز بعض القانونيين كون اللجنة التأسيسية الأصلية يجب أن تكون منتخبة من الشعب مصدر السلطات. نعم هذا صحيح، في دولة لا تشهد حربًا شرسة وشعبها ممزق ومهجر ونازح ولاجئ وما لا يقل عن خمسة جيوش تتواجد على أراضيها. في مثل هكذا ظروف لا يمكن انتخاب لجنة تأسيسية أصلية من الشعب الذي يعاني نصفه على الأقل من مشاكل مرتبطة بالوثائق، ناهيك عن ظروف الحرب نفسها. لكنها ليست مشتقة أيضًا. فاللجنة الفرعية أو المنشَأة أو المشتقة تستند إلى جملة القوانين النافذة في البلاد والأهم دستورها. فهل استند تأسيس هذه اللجنة إلى ذلك؟ طبعًا لا! ينص دستور العام 2012 على أن تعديل الدستور يتم بموجب اقتراح يقدمه الرئيس أو ثلث أعضاء مجلس الشعب، وهذه اللجنة لم تنشأ بفعل اقتراح من أي منهما وإنما بفعل قرار أممي. يعني هذا أمرًا واضحًا وهو أن اللجنة ومخرجاتها لا تخضع لدستور العام 2012 حتى لو عدلته -كنص لا أكثر- كونها صدرت بقرار لا يستند إليه، مما يجعل دستور العام 2012 خارج الاعتبارات القانونية والسياسية على السواء. إذا كانت هذه اللجنة ليست مشتقة ولا أصلية فما هي إذًا؟ نعتقد بقوة أن مصطلح الأصالة والتأسيس، وفي سياق النزاعات تحديدًا، يعني قدرتها على وضع دستور جديد في البلاد من ناحية وهذا محقق، وقدرتها على شرعنة نتائج عملها وهذا ممكن بفعل قرار إحداثها كما سنرى لاحقًا، وعلى الحد الأدنى من التمثيلية الذي تحتاجه مثل هذه العملية. وهنا النقطة الأصعب. فكيف نحظى بتمثيلية عالية في مثل هكذا ظروف؟ والجواب أننا نفترض حلًا يستند إلى القرارات الدولية صاحبة المشروعية الأعلى. ينص القرار 2254 على دعم “عملية سياسية بقيادة سورية تيسرها الأمم المتحدة وتقيم، في غضون فترة مستهدفة مدتها ستة أشهر، حكمًا ذا مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على الطائفية، وتحدد جدولًا زمنيًا وعملية لصياغة دستور جديد، ويعرب كذلك عن دعمه لانتخابات حرة ونزيهة تجرى، عملًا بالدستور الجديد، في غضون 18 شهرًا تحت إشراف الأمم المتحدة”. إذا كنا نتحدث عن القانون فإن واو العطف بين الحكم ذي المصداقية وصياغة الدستور لا تعني الترتيب، وإلا لكان الحرف هو “ُثم” أو يذكر النص دون لبس مثل هذه التراتبية مثلما يحدث عند ذكر انتخابات وفق الدستور الجديد، أي دستور ثم انتخابات. هذا في القانون، أما في السياسة فهذا يعني أن الدول المنخرطة في الشأن السوري والتي أخذت دور الضامن، أي روسيا وتركيا وإيران، وبموافقة أمريكية ضمنية جعلت هذا الخيار خيارًا وحيدًا على الأقل في المدى المنظور. أما لجهة التمثيلية فهي مرة أخرى تستند إلى الشرعية الدولية والتي تذكر في نص القرار 2254 منصات الرياض ومنصات أخرى لتمثيل المعارضة. من النافل القول إن اللجنة الدستورية لا تمثل الشعب السوري. فعلى الرغم من ضرورة تمثيل الحكومة السورية والمعارضة كما جاء في نص القرار نفسه، فهناك من يشكو محقًا من تمثيلية للجنة الدستورية الحقيقية للشعب السوري، أي أنها ليست منتخبة من الشعب السوري مباشرة. بالتأكيد لا! ولكن كيف يمكن أن يمثل الشعب هنا؟! مرة أخرى القانون والسياسة. فالقانون النافذ في دولة لا تعترف أطراف سورية كثيرة بشرعيتها ولا بقوانينها هو القانون الدولي وحده والذي يمثله هنا القرار 2254 والذي كما أسلفنا يعتمد على “الحكومة السورية” “ومنصة الرياض” و”منصتي القاهرة وموسكو “. والسياسة هنا أن الأطراف المعترف بها والمدعومة من الدولة الضامنة هي التي تختار من يمثل الشعب السوري، حالنا هنا ربما يشبه حال دول شهدت ظروفًا كظروف سوريا تدخلت بكتابة دستورها دول أخرى، كاليابان وألمانيا، صاحبتي الاقتصادين الثالث والرابع عالميًا، واللتين شهدتا تدخلًا عميقًا من قبل الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية في كتابة دساتيرها. هذا ليس تبريرًا بالتأكيد، لكنها السياسة والسياسة فقط!

ذكرت أيضًا أن هذه اللجنة هي اللجنة الأكثر تمثيلية منذ العام 1950 تاريخ آخر لجنة دستورية منتخبة ديموقراطيًا، وهذا برأيي صحيح تمامًا. فالدساتير السورية منذ العام 1950 كتبتها لجان عينتها قوى انقلابية وليست قوى منتخبة شرعيًا. حتى دستور الوحدة مع مصر كتبته لجنة عينها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. أما اللجنة الدستورية التي أنشأتها الأمم المتحدة، وعلى الرغم من عدم انتخابها إلا أن أعضاءها ينتمون إلى كافة المحافظات ومن كافة المكونات السورية الدينية والعرقية والطائفية والمذهبية ومكوناتها الثلاث تمثل قوى سياسية أساسية (وليس القوى السياسية الأساسية بالطبع). إذًا هي تعبر عن جزء مهم من الشعب السوري. الكلام واضح هنا، إذ ليست هذه اللجنة تمثيلية ولكنها الأكثر تمثيلية منذ العام 1958.

ورغم كل ما ذكرت يبقى سؤال واحد مهم للغاية، وهو ما دور هذه اللجنة؟ ما هي حدود صلاحياتها بموجب قرار إنشائها؟ والجواب هنا أن لا جواب واضحًا لهذا السؤال. نقرأ في التعليمات الإجرائية للجنة: “تقوم اللجنة الدستورية، في سياق مسار جنيف الميسر من طرف الأمم المتحدة، بإعداد وصياغة إصلاح دسـتوري يطرح للموافقة العمومية، كإسـهام في التسـوية السـياسـية في سـوريا في تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2254 للعام 2015 “، لكن ما هي الموافقة العمومية؟ لماذا لا يذكر النص الاستفتاء حرفيًا؟ لأن الغموض هنا، ونتمناه بناءً، قد يعني موافقة اللجنة الموسعة وقد يعني الاستفتاء. إذا كانت اللجنة الموسعة هي من سيوافق “عموميًا” فهذا يحولها إلى سلطة قد تغير مسار العملية السياسية برمتها. هي السياسة هنا أولًا ومن ثم القانون!

أما لجهة قولي بأنها قد تشبه برلمانًا ما في حال توفرت الإرادة الدولية، فلهذا أيضًا مستنده. ينص القرار 2254 على إنشاء حكم ذي مصداقية يشمل الجميع وغير طائفي ولم يحدد كيفية إنشاء هذا الحكم. زد على ذلك أن القرار يذكر هيئة الحكم الانتقالية بالصيغة التالية: “وإذ يكرر التأكيد على أنه ما من حل دائم للأزمة الراهنة في سوريا إلا من خلال عملية سياسية جامعة بقيادة سورية تلبي التطلعات المشروعة للشعب السوري، بهدف التنفيذ الكامل لبيان جنيف المؤرخ 30 من حزيران 2012، الذي أيده القرار 2118 (2013)، وذلك بسبل منها إنشاء هيئة حكم انتقالية جامعة تخوَّل سلطات تنفيذية كاملة، وتعتمد في تشكيلها على الموافقة المتبادلة”. وهنا لا يفوتنا كلمة “بسبل منها” أي أن جسم الحكم الانتقالي هو سبيل واحد من سبل متعددة وليس السبيل الوحيد، ناهيك على تحقيق مبدأ الموافقة المتبادلة بين الحكومة والمعارضة. إذًا، هناك سبل أخرى فهل يمكن للجنة الدستورية أن تكون أحدها؟! ولم لا؟ فهي تتكون من 150 شخصًا شكلوا بالتوافق المتبادل بين الطرفين وهناك من سيقول إنها ليست طائفية وهناك من سيقول أيضًا إنها تشمل الجميع، إذ لا تعريف دقيقًا لكلمة “جميع”. فلنفترض الآن أن الأمم المتحدة ومن خلفها الدول الضامنة والولايات المتحدة الأمريكية -وهنا السياسة والقانون مرة أخرى- قررت أن تستمر اللجنة بعد إقرار الدستور لتضع القانون الانتخابي وتشرف على الانتخابات فهي تحولت حكمًا إلى جسم حكم انتقالي متوافق عليه بين الأطراف. بل أكثر من ذلك! لنقرأ ما يقوله نص الرسالة المرسلة من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرث والتي نصت على إطلاق اللجنة الدستورية. يقول النص “المعايير المرجعية والعناصر الأساسية للائحة الداخلية للجنة الدستورية ذات مصداقية، متوازنة وشاملة للجميع، بقيادة وملكية سورية وبتيسير من الأمم المتحدة في جنيف”. من الواضح أن النص هنا يقتبس نص القرار 2254. هو القانون والسياسة مرة أخرى، والسياسة أولًا!!

أما لجهة السياسة والحرب والفصل بينهما في لحظة اللجنة الدستورية فهذه نافلة ولا داعي لشرح مستفيض فيها. فعلى الرغم من إصرار الجميع على أن لا حل عسكريًا للأزمة في سوريا فإن هذا لم يتحقق إلا في لحظة تشكيل اللجنة الدستورية والتي لم تأبه لخسائر المعارضة المسلحة وانتصارات السلطة المتلاحقة، عندما أعطت للسلطة والمعارضة حجمين متساويين فيها. هي لحظة مهمة إغفالها خطيئة لا خطًا. هي السياسة هنا، والسياسة وحدها!

بالطبع وبعد كل ما سبق سيأتي من سيقول إن مشكلتنا ليست مع الدستور وإنما مع سلطة فوق الدستور. الحقيقة مشكلتنا في الدستور وفي سلطة فوق الدستور. يقول الباحث المغربي حسن طارق إن الدول الاستبدادية بغالبيها هي دول فيها دستور، لكنها دول تحكُم بالدستور ولا يحكمها الدستور! لكن ماذا لو كتبت هذه اللجنة دستورًا بنظام برلماني، أو/وحددت صلاحيات السلطة التنفيذية، وجعلت من تعديل هذه المواد أمرًا غاية في الصعوبة فهل ستتمكن أي سلطة من أن تحكم بالدستور لا أن تحكم من قبله؟ ربما نعم وربما لا! وهنا السياسة وربما القانون والسياسة أولًا!

إذًا هي طبخة سيئة كواقعنا ولكنها تبقى طبخة في ظل جوعنا! وعلى من يريد منا أن نتجاهلها أن يطبخ لنا طبخات أخرى وإن كانت سيئة -لا أن يتحدث عن مكوناتها المستحيلة في هذه المواسم-، عندها لن نرفض هذه الطبخات مجتمعة، لأنها وعلى الرغم من سوئها جميعًا ستتيح لنا اختيار النكهة الأقل سوءًا! وهذه هي السياسة والسياسة وحدها وقبل كل شيء!

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي