شكون

  • 2020/02/23
  • 11:10 ص

نبيل محمد

تصطدم إعادة إنتاج التراث الفني وفق مفهوم النقد الكلاسيكي دائمًا بالتمسك الصلب بمكونات هذا التراث، بصوت ونبرة وأداء معين لا يعني تجديده سوى محاولة يائسة وفق المنظور نفسه لبث الروح فيه، التراث هكذا خُلق هكذا يستمر، تسجيلات قديمة يشوبها تشويش أحيانًا ما يمنحها جمالية في أذن المستمع، يُسمَع التراث كما هو، وإن صفّق الجمهور لمن يغني أغنية تراثية ما، أو يحاول إعادة صياغة منتج قديم، فإنما هو تصفيق لاحق لابتسامة غير مكتملة تعبّر عن إعجاب مبتور. “نوستالجيا” يُحسَب لكل فن حديث العبث بها، كسر “تابو” التراث كان مهمة صعبة قبل حوالي عشر سنوات، في العالم العربي على الأقل، واليوم بات ساحة تجريب للجميع، بأدوات غير مكتملة كثيرًا من الأحيان، تثير تشويهًا لهذا التراث في أذن خبيرة وفي أخرى غير خبيرة، في أذن ربما يصعب عليها تمييز كون هذه الأغنية أو القطعة الموسيقية تنتمي للتراث أصلًا، ويُخترَق هذا الموروث أيضًا بأدوات متمكّنة ومشروع واضح المعالم، تخلق فيه ما لا يملكه أصلًا، وهو مناسبته لأمكنة وأجواء لا يمكن أن يواكبها التراث.
“شكون” فرقة سورية- ألمانية قدمت في أحدث منتجاتها مؤخرًا أغنية “منين أبدا يا قلبي” من تراث السويداء، أغنية لا يمكن إيجادها بنسخة صافية قديمة على لسان مغنيها الأوائل، أو حديثة على لسان مردديها، لتظهر في جديد “شكون” على شاكلة أغانٍ تراثية قدمتها الفرقة سابقًا بأسلوبها كخلفية لموسيقى إلكترونية تجريبية، ولعل هذه الأعنية بالذات لا تبدو خلفية للموسيقى بل تبدو الموسيقى خلفية لها، وهو ما لا يتطابق مع باقي منتجات “شكون”، إن صح  أصلًا توصيف الموسيقى والكلمة على أساس أن إحداهما خلفية للأخرى، بمنطق تجزيئي للفن.

“فطوم فطومة”، “على موج البحر”، “يامو”، “ع اللا لا ولالا” ومجموعة أخرى من أغانٍ تنتمي للتراث السوري وتراث المنطقة، جمعها أمين خاير وماهر القاضي السوريان وثوربن بيكن الألماني، مجتزئين منها ما يعطيها مساحة مناسبة مترافقة مع موسيقى تجريبية إلكترونية، مطلقين التجربة على منصات التواصل، ومن ثم على مسارح وصالات تهتم بهذا النموذج الفني في أوروبا بداية، وصولًا إلى لبنان والأردن مؤخرًا، ليحظى هذا المنتج بجمهورعريض لا يقتصر على العرب، جمهور بات يشكل شريحة عريضة للموسيقى التجريبية، وللأداء غير المقيد تمامًا بقوانين كلاسيكية، يتجاوز مع تطوره مزيدًا من الحواجز، وصولًا إلى حاجز الصوت ذاته، الذي لم يعد مطلوبًا تمامًا مع إمكانية معالجته، بل وإعادة تكوينه. هذا ما لا ينتمي بطبيعة الحال لـ”شكون”، كون إحدى ميزاتها التركيز على صوت قوي واضح متفاهم مع الموسيقى التي يغني خلفها أو تعزف خلفه (فوقها أو فوقه بمنطق الطبقات “Layers”).
بينما تعرّف “ويكيبيديا” الموسيقى التجريبية، أنها تأليف موسيقي لا يمكن التوقع به، وهو تعريف يمنح هذه الموسيقى الحديثة آفاقًا واسعة من المحاولات والعمل واختبار الموسيقى في مساحات تعبيرية وشعورية قد لم تختبر فيها من قبل. وفي “شكون” رغم عدم وضوح الفرادة تمامًا فيما يتم تقديمه، ورغم كون هذه التجربة ليست جديدة كليًا في سياقها، بل سُبقت بتجارب على الصعيد العربي، والسوري نفسه، وبالتأكيد شارفت على أن تكون تراثًا في بلدان أخرى، إلا أنها لافتة بالفعل بحالة التأثير الذي خلقتها بجمهورها، وبوجودها على لائحة المفضل لدى آلاف مستمعي هذا الشكل، وبأرقام استماع تصل إلى الملايين لبعض ما أنتجته، وبملئها الصالات التي تقدم فيها موسيقاها بمجرد الإعلان عن حفلها.

المربع، بسايكالبّو، كايروكي، فصام، شكون، وعشرات المجموعات الأخرى، كوّنت مكانًا مظلمًا بأجوائه (أو هكذا يُفهم هذا الفن على الأقل) مفعمًا بالحياة لحيز كبير من الجمهور العربي الباحث عن الاختلاف والجديد، ومشجعًا أيضًا لتعميم حالة التجريب وخرق الثوابت.. الثوابت التي قد لا يعني اختراقها دائمًا انتصارًا أو شجاعة، لكنه اختراق لإيجاد منتج يحقق متعة مطلوبة، متعة مختلفة عن طقس التراث ككل.

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي