أسامة آغي
الخطاب الناري الذي ألقاه زعيم حزب “الحركة القومية” التركي، دولت بهجلي، لم يكن مجرد تصعيد لفظي لغايات سياسية أو حزبية تركية مؤقتة، بل هو تعبير عن حساسية الأتراك القومية العابرة لكل الحزبيات. هذه الحساسية يجتمع حولها الطيف السياسي التركي في المنعطفات السياسية الكبرى.
بهجلي، وهو حليف حزب “العدالة والتنمية” في حكم تركيا، قال “إن روسيا هي من يهيئ المناخ لجرائم النظام السوري”، وبالتالي فهي “تتحمّل مسؤولية دماء الجنود الأتراك الذين قُتلوا في سوريا”.
هذا الموقف التركي لم يقتصر على حزب “الحركة القومية”، بل إن وزير الدفاع، خلوصي أكار، قال قبل يوم من التئام اجتماع وزراء دفاع حلف شمال الأطلسي (الناتو)، “إن أنقرة تتوقع من أوروبا والناتو اتخاذ خطوات ملموسة ضد هجمات النظام السوري على القوات التركية في إدلب”.
إذًا، تدخل إدلب هنا بصفة موقع استراتيجي، يهم الدولة التركية على مستوى الأمن القومي، فإدلب محافظة تحدّها تركيا من الشمال، وصار من الضرورة بالنسبة للدولة التركية منع أي تهديد قادم، ويعتقد الأتراك أن النظام السوري بصيغته الحالية، ليس مصدر أمان على الحدود، وهذا سبب كافٍ لدعوتهم إلى خلق منطقة آمنة يلجأ إليها السوريون الهاربون من بطش نظام الأسد.
هذه الرؤية التركية المرتبطة باتفاقات “أستانة” و”سوتشي”، والتي تنص على خفض التصعيد، لا تعني وفق فهم الأتراك، أن يدخلها النظام السوري وقواته، بل تعني تفكيك المنظمات الراديكالية الخارجة عن احتواء “الجيش الوطني السوري”، الذي يضمّ أغلبية فصائل المعارضة، المرتبطة بالتنسيق مع الأتراك.
الروس لا يفكرون بطريقة تتلاءم مع التوجه والفهم التركي حول إدلب، ولهذا يدعمون هجمات النظام في هذه المنطقة، والغاية الرئيسة لهذا الدعم، ترتبط عميقًا باستراتيجيتهم، التي بُنيت على استخدام سياسة الأرض المحروقة، بغية قضمها تدريجيًا. هذه السياسة غايتها النهائية، فرض رؤية الحل السياسي الروسي، بعيدًا عن محتوى القرار الدولي 2254.
الفهمان والمصلحتان التركية والروسية بشأن إدلب من جهة، وبشأن مجمل الصراع في سوريا، هما فهمان متباينان على مستوى الجوهر، ومتناقضان على مستوى المصالح الاستراتيجية، وهذا يجعل منهما عامل انزياح في العلاقات الشاملة بين تركيا وروسيا، أي إن موقع إدلب الاستراتيجي، وطبيعة الوضع القائم في هذه المنطقة، يدفع باتجاه مواجهة محتملة بين الدولتين التركية والروسية، اللتين كانتا تعملان على تعميق العلاقات بينهما اقتصاديًا وسياسيًا.
المواجهة المحتملة بين الروس والأتراك، يقف خلفها تجاهل روسي صريح للمصالح القومية التركية، وفي مقدمتها مصلحة الأمن القومي للبلاد، وهذا اتضح من خلال دعم الروس عسكريًا وسياسيًا للنظام في هجماته على إدلب، وهجماته على الضامن التركي في نقاط المراقبة. هذه المواجهة المحتملة ستضع الروس والأتراك في منعطف جديد لعلاقاتهما، ينسف كل الجهود السابقة بين البلدين، التي تمت منذ تطبيع وتطوير العلاقات بينهما، بعد إسقاط تركيا الطائرة الروسية فوق حدودها مع سوريا.
الروس في ذهابهم العنيد إلى دعم النظام خارج مفاهيم خفض التصعيد في إدلب، يعملون فعليًا على استدراج الحرب في هذه المنطقة، وبالتالي يجبرون الأتراك على اتخاذ سياسة حازمة، تتمثل بتنفيذ اتفاقات “سوتشي” و”أستانة” فيها، دون نفوذ عسكري للنظام، وهذا يعني حماية الطرق الدولية العابرة “M4″ و”M5”.
ولكن، إذا أصرّ الأتراك على موقفهم بتراجع قوات النظام والميليشيات الإيرانية والروسية إلى ما وراء حدود منطقة خفض التصعيد الرابعة، وبالطبع فإن قوات النظام لن تتراجع، لأن تراجعها يعني بداية فقدانها لزمام المبادرة المدعومة روسيًا، فإن الإصرار التركي سيقود تركيا إلى شنّ حرب على هذه القوات، لإجبارها على التراجع إلى حدود خفض التصعيد في إدلب، وفي شمال حماة. ولهذا، فإن الموقف الروسي حرج للغاية، فهم إذا ما انحازوا للنظام وقواته، فهذا يعني مواجهة صريحة وحربًا مع الأتراك، ويعني خسارة كبرى لدولة بحجم تركيا وموقعها الجيوسياسي.
الروس الذين يغلب على قيادتهم العناد السياسي، والصلف العسكري، لن يستطيعوا في حال حدوث مواجهة عسكرية بينهم وبين الأتراك أن ينجزوا أي تقدم على هذا الصعيد، لا سيما أن حلف شمال الأطلسي، وعلى لسان أمينه العام، أعلن أن الحلف بصورة تامة يقف مع تركيا ضد أي عدوان عليها وعلى قواتها.
الأتراك إذا ما حدثت المواجهة بينهم وبين الروس، ستكون لديهم أفضلية عسكرية مدعومة من حلف شمال الأطلسي، وأفضلية جغرافية، باعتبارهم دولة ذات حدود تمتد إلى 900 كيلومتر مع سوريا، ولهذا قد تحدث بعض المعارك بينهما، ولكن سيلجأ الروس إلى طلب هدنة، أو الاستعداد لمفاوضات جديدة مع الأتراك، ستختلف هذه المرة عما جرى في “أستانة” و”سوتشي”، بسبب أن ميزان القوى الفعلي ليس في مصلحة الروس حاليًا.
ولكن في كل الأحوال، إذا ما قامت تركيا بطرد قوات النظام خارج حدود منطقة التصعيد الرابعة، فالأرجح عدم انخراط الروس في حربٍ قد تبدأ في إدلب، ولكن لا يمكن التكهن أين ومتى ستنتهي؟ وكم من الدول ستنخرط بها؟ ولهذا لا يزال الروس يلعبون قرب فم الهاوية حتى آخر حد ممكن.
إن ذهاب تركيا إلى طرد قوات النظام والميليشيات الإيرانية والروسية من محافظة إدلب وشمال حماة، سيلبي حاجتها في حماية أمنها القومي، من خلال وجود منطقة آمنة فيها. وهذا الأمر سيغيّر قواعد اللعبة السياسية في ملف الصراع السوري، إذ سينتهي معه أسلوب الحسم العسكري للصراع، وينتهي معه أمل الروس بتأهيل النظام من جديد.
الروس يدركون صعوبة المنعطف الذي تقودهم إليه سياسة الدولة التركية الحازمة، حيال بقاء إدلب منطقة آمنة، ويدركون أن حجم الخسائر التي تكبدها النظام وحلفه من أجل الهيمنة على إدلب، ذهبت سدى، وأنهم مضطرون للذهاب إلى جنيف لتنفيذ إرادة القرار الدولي، الذي وقعوا عليه في نهاية عام 2015، وحاولوا إفراغه من مضمونه بالتفافهم عليه دون جدوى.
الحرب قادمة في إدلب إلا إذا حدث ما لم يكن بحسبان أحد.