المقابر الجماعية في سوريا.. ضحايا بانتظار محاكمة المجرمين

  • 2020/02/23
  • 11:30 ص

مقبرة جماعية اكتشفها النظام في دوما 16 شباط 2020 (سانا)

عنب بلدي – يامن مغربي

فتح إعلان النظام السوري عن اكتشاف مقبرة جماعية في منطقة دوما شرق العاصمة السورية دمشق، الباب مجددًا حول المقابر الجماعية في سوريا والمسؤولين عنها وكيفية الوصول إلى آلية لمحاكمتهم مستقبلًا، بالإضافة لمعرفة مصير المفقودين.

الإعلان عن المقبرة الجماعية، في 17 من شباط الحالي، ليس الأول من نوعه في سوريا، إذ أُعلن سابقًا عن اكتشاف عشرات المقابر الجماعية في مناطق متفرقة، سواء كانت هذه المناطق تحت سيطرة النظام السوري أو فصائل المعارضة أو تنظيم “الدولة الإسلامية”.

آليات المحاكمة ليست سهلة، خاصة مع غياب محاكم قانونية دولية أو محلية خاصة بسوريا والجرائم التي حدثت فيها، كما تحتاج إلى خطوات علمية وقانونية.

آليات عملية لتحديد الفاعلين

تعتمد التحركات باتجاه معرفة المسؤولين عن المقابر الجماعية بالدرجة الأولى على إمكانية الوصول الفعلي إلى المقبرة وفتحها، واستخراج الجثث بطريقة علمية لتوثيق المعلومات التي يمكن الوصول إليها.

ويُقصد بالمعلومات، أي تفصيل مهما بدا صغيرًا يتعلق بالجثة، سواء هوية شخصية أو أوراق ثبوتية، أو حتى الخواتم والساعات والهويات المعدنية بالنسبة للعسكريين، كما يساعد فحص الجثة على تحديد طريقة الوفاة وتاريخها ونوع السلاح المستخدم بالقتل، بحسب ما قاله مدير “المركز السوري للعدالة والمساءلة”، محمد العبد الله، لعنب بلدي.

وأكد العبد الله أنه من دون الوصول إلى المقبرة والحصول على هذه المعلومات بطريقة علمية وعملية ونتيجة تحقيق جنائي، لا يمكن القيام بأي تحرك قانوني في هذا الاتجاه.

في حين يرى مدير منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة”، بسام الأحمد، في حديث إلى عنب بلدي، أن معرفة الفاعلين وتحديدهم يحتاج إلى عمل شاق، يتضمن شهادات منشقين عن النظام أو فصائل المعارضة أو أي جهة فاعلة في سوريا، وكذلك شهادات أشخاص أقاموا في المناطق التي وُجدت فيها المقابر الجماعية، ومن الممكن لشهاداتهم أن تشكل أدلة حاسمة على الفاعلين.

وأشار الأحمد إلى إمكانية الاعتماد على صور الأقمار الصناعية في تحديد هوية الفاعلين، عبر رصد التغييرات التي تطال التربة نتيجة الحفر وتحديد تاريخها، وهذا ما يساعد على بناء ملفات حقوقية وقانونية للمحاسبة مستقبلًا.

قضية “المقابر الجماعية” ستبقى حاضرة لسنوات مقبلة، وربما يتم اكتشاف مقابر أخرى، بحسب الأحمد.

إعلان النظام عن اكتشاف مقبرة جماعية ليس الأول من نوعه، إذ سبق أن أعلن في نيسان من عام 2016، عن اكتشافه مقبرة جماعية في مدينة تدمر، ضمت رفات 42 شخصًا بينهم مدنيون وعسكريون، قالت الرواية الرسمية إن تنظيم “الدولة الإسلامية” أعدمهم.

كما عثرت لجنة إعادة الإعمار التابعة لمجلس الرقة المدني في عام 2018 على مقبرتين جماعيتين ضمتا حوالي 500 جثة في ملعب الرشيد وسط المدينة، تبع ذلك إعلان فريق الاستجابة الأولية في الرقة عن مقبرة جماعية مطلع عام 2019، وقدر الفريق أن عدد الضحايا فيها يتراوح بين 2500 وثلاثة آلاف شخص.

من يحاسب من؟ وعلى أي أساس؟

الإعلان عن المقابر الجماعية يفتح باب السؤال حول كيفية محاسبة من نفذ الجرائم بحق الضحايا قبل دفنهم في المقابر الجماعية، وهذا ما يجيب عنه بسام الأحمد بتوضيحه في البداية أن المقبرة الجماعية بحد ذاتها لا تعتبر انتهاكًا، بل يتصل الانتهاك بكيفية وفاة الضحايا الذين عُثر على رفاتهم داخلها، فهل الضحية قُتلت تحت التعذيب مثلًا؟ أم أُنها قتلت في إحدى المعارك بين الطرفين؟ هنا يكمن الفارق.

آليات المحاسبة الموجودة حاليًا محدودة، وتتبع للمحاكم الأوروبية، ولا توجد محاكم خاصة بسوريا، بينما تجري محاكم في أوروبا لجناة وصلوا إلى إليها، كما أن هناك دعاوى قضائية غيابية بحق عدد من المسؤولين في الحكومة وأجهزة المخابرات السورية.

واعتبر العبد الله أن هذه المحاكمات لا تعبر عن أفضل صيغة للعدالة بسبب محدوديتها واستخدامها للقضاء الأوروبي أو للقانون العالمي لحقوق الإنسان، وأن عدم وجود محاكم خاصة بسوريا يجعل الأمر غير واضح، فمن يحاسب من؟ وعلى أي أساس؟

وأشار إلى أنه بغض النظر عن الجهة الفاعلة، سواء كانت النظام السوري أو غيره، فالمحاسبة واجبة وضرورية للحفاظ على حقوق الضحايا، مؤكدًا أنه من الواجب محاسبة جميع المنتهكين، والنظر من هذه الزاوية.

وشرح أن المحاسبة تتم بعد استخراج الجثة وإجراء تحقيق جنائي ثم معرفة الطرف الفاعل.

 آليات قانونية متبعة في سوريا

سبق أن أنشأ مجلس حقوق الإنسان بدورته الاستثنائية الـ17 في آب 2011 لجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا، وعهد إليها بولاية التحقيق في جميع الانتهاكات المزعومة للقانون الدولي لحقوق الإنسان منذ آذار 2011، بغية ضمان مساءلة مرتكبي هذه الانتهاكات، بما فيها الانتهاكات التي قد تشكل جرائم ضد الإنسانية.

وقد وصلت لجنة التحقيق إلى أدلة ووثائق مؤكدة عن حدوث جرائم كبرى في سوريا ترقى لمستوى جرائم ضد الإنسانية، وأصدرت 17 تقريرًا حول ذلك.

وأُنشئت الآلية الدولية المحايدة والمستقلة للمساعدة في التحقيق والملاحقة القضـائية للمسـؤولين عن الجرائم الأشد خطورة، بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، في كانون الأول 2016.

وتدعم المنظمات المدنية السورية الآلية منذ تأسيسها، وأرسلت عدة منظمات غير حكومية سورية، في شباط 2017، رسالة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة تتضمن توصيات من شأنها أن تساعد الآلية على فهم أولويات السوريين، وتعزيز أهمية الآلية، والقبول العام لها من قبل السوريين.

أهمية تحركات أهالي الضحايا

في وسط الأزمة السياسية والانتهاكات في مجال حقوق الإنسان، بالتزامن مع اكتشافات المقابر الجماعية على مدى السنوات السابقة، يبرز السؤال حول الكيفية التي يجب لأهالي الضحايا التحرك من خلالها من أجل ذويهم.

ويرى محمد العبد الله أن الخطوة الأهم بالنسبة لأهالي الضحايا هي معرفة مصير أولادهم والمطالبة بإجراء تحقيق جنائي وتقني واختبارات للحمض النووي للتأكد من هوية الجثة، خاصة أن من حقهم الوصول إلى المعلومات.

ومن هذه النقطة، اعتبر العبد الله أن أهالي المغيبين والمدفونين في المقابر الجماعية هم ضحايا أيضًا، بسبب عدم توفر الآليات والمعلومات الخاصة التي تتيح التعامل مع ملف المفقودين.

وينص القانون الدولي على حق أهالي المفقودين بالوصول إلى المعلومات الدالة على مصير مفقوديهم، وعلى الأطراف المتنازعة في أثناء الحروب تقديم جميع المعلومات لهم أو للمنظمات العاملة بهذا الشأن، وسبق أن استطاعت الهيئات الفاعلة في البوسنة والهرسك، الوصول إلى مصير 70% من المفقودين في الحرب، وذلك بعد توثيق طويل قامت به عدة منظمات حقوقية في البوسنة على مدى أعوام، بحسب دراسة أصدرها مركز “الهيئة السورية للعدالة الانتقالية” في عام 2014.

وخاضت البوسنة وصربيا وكرواتيا حربًا طويلة تشبه إلى حد كبير ما يحصل في سوريا حاليًا، قبل توقيع اتفاق سلام بين الأطراف المتصارعة في عام 1995، أنهى الحرب وفتح الباب للبحث عن المفقودين.

بينما يشير بسام الأحمد إلى أنه من الضروري لأهالي الضحايا في كل مكان أن يتحدوا معًا لإنشاء هيئات وجمعيات تطالب بالمحاسبة والتواصل مع اللجان الأممية المختصة.

وتعد تحركات الأهالي جزءًا من تحركات أساسية نحو محاسبة مرتكبي الانتهاكات، وهو ما يراه كل من بسام الأحمد ومحمد العبد الله خطوات ضرورية لبناء سوريا جديدة.

وسبق أن رفع مواطنون سوريون دعاوى قضائية في أوروبا ضد مسؤولين في النظام السوري، كما تم تأسيس “رابطة عائلات قيصر” من قبل أسر ضحايا سوريين، هدفها الرئيس مقاضاة المسؤولين ومواصلة النشاط الحقوقي “لإنهاء حالة الإفلات من العقاب”.

كما ظهرت تحركات حقوقية فردية في عام 2019، تحاول إيجاد مخرج يُمكّن المحكمة الجنائية الدولية من امتلاك ولاية تُلاحق من خلالها وتُحاسب مرتكبي “جرائم الحرب” و”الجرائم ضد الإنسانية” في سوريا، أيًا كان طرف النزاع الذي ينتمون إليه.

وجاءت هذه التحركات بعد استعصاء إيصال الملف السوري إلى المحكمة الجنائية الدولية عبر مجلس الأمن، بسبب عرقلة روسيا والصين باستخدامهما “حق الفيتو” جميع المساعي الدولية “الجادة” لفتح تحقيقات حول “الانتهاكات الجسيمة” و”الجرائم الخطيرة” في سوريا، بموجب اختصاص المحكمة الدولية.

عنصر الدفاع المدني العثور على مقبرة جماعية في بلدة تركمان بارح بريف حلب الشمالي 15 تشرين الثاني 2019 (الدفاع المدني السوري)

محكمة الجنايات الدولية

أول هيئة قضائية مستقلة، أُسست عام 2002 بموجب نظام روما الأساسي الموقع عام 1998، باعتبارها أول محكمة قادرة على محاكمة أفراد متهمين بارتكاب “جرائم حرب” و”جرائم ضد الإنسانية” وإبادة جماعية” حول العالم.

يصل عدد الدول الموقعة على قانون إنشاء المحكمة إلى 121 دولة حتى عام 2012، وتواجه انتقادات حادة من كبرى دول العالم، من بينها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين والهند، التي رفضت التوقيع على نظام روما الأساسي أو انسحبت منه لاحقًا.

انتهاكات في كل مكان.. ماذا عن المستقبل؟

يؤكد محمد العبد الله أن الإخفاء القسري مكرس في سوريا، ولا يشمل النظام فقط، بل يشمل مسلحين من المعارضة وجبهة النصرة وتنظيم “الدولة”.

“رأينا كيف أُخفيت جثث في عدة أماكن خارج سيطرة النظام السوري، بالتالي فإن الانتهاكات من جميع الأطراف، وأصبحت ثقافة متغلغلة في الثقافة الأمنية في سوريا”، أضاف العبد الله، مطالبًا بالوصول إلى برنامج متكامل للحقيقة لا يقتصر على سجن شخص من هنا أو هناك، ويكرس إنهاء هذه الممارسات والاعتقال والقتل والدفن جماعيًا والتغييب القسري والإعدامات الميدانية.

بينما يرى بسام الأحمد أن التحدي الأبرز يكمن في كيفية ضمان وجود محاسبة لجميع الأطراف دون تمييز جهة عن أخرى، ويجب النظر إلى الضحايا بغض النظر عن لون وجنس وهوية وعرق ومنطقة وطائفة المجني عليه وكذلك الجاني، ولا يمكن بناء سوريا جديدة دون خطوات المحاسبة الحقيقية والشفافة والقانونية والعادلة، كما يجب أن يملك الجناة حق الدفاع عن أنفسهم.

ولا يمكن لأي محكمة مستقلة أن تأخذ سوى بأدلة واضحة وعلمية، بحسب الأحمد، لذا تعد المقابر دليلًا مهمًا يحتاج إلى كثير من العمل للوصول إلى بناء ملف كامل حول هوية القاتل، فالمحاسبة ليست مجرد محكمة، ومحكمة الجنايات الدولية لا تملك حق الوصول إلى المعلومات في سوريا، لأن سوريا لم توقع على المعاهدات الخاصة بهذا الأمر.

مقالات متعلقة

مجتمع

المزيد من مجتمع