بحلول يوم الأحد، أشارت التقديرات إلى أن عدد النازحين بسبب الهجوم الأخير لقوات الأسد المدعومة روسياً تجاوز عتبة المليون. غني عن الذكر أن هذا الرقم بات من مألوف المقتلة السورية، فلا هيئات دولية تتدخل على وجه السرعة لإغاثتهم، ولا اجتماعات لمجلس الأمن لبحث أوضاعهم، رغم معرفتنا بانفضاضها على خطابات وخطابات مضادة من دون أي جديد. بل كنا، قبل الحملة العسكرية الأخيرة، على موعد في مجلس الأمن مع تعطيل جزئي لبرنامج المساعدات الدولية، وكأن موسكو كانت تبيّت سلاحاً جديداً ضد المهجّرين الجدد.
مات أطفالٌ للهاربين في العراء تحت الصقيع؛ هذا تفصيل قد يدخل عنصراً درامياً على المأساة لا أكثر. أين يذهب أولئك، حيث الحدود مغلقة أمامهم، وآلة الإبادة الروسية والأسدية من خلفهم؛ تتوعدهم وتتوعد مهجّرين سينضمون إليهم؟ سؤال لا أحد يريد التفكير فيه، وثمة كثر في العالم يتمنون سراً لو كانت آلة الإبادة أكفأ مما هي عليه، فلا تخلّف وراءها لاجئين. أولئك الهائمون هرباً لا ينتظرون شيئاً ممن خذلوهم خلال سنوات، ولا تحرّك غالبيتهم في هذه اللحظات سوى غريزة البقاء.
السؤال الذي تسهل الإجابة عليه هو: إذا كان همهم “المشروع إنسانياً في هذه الأحوال” هو البقاء، لماذا لم يستسلموا ويبقوا تحت سيطرة قوات الأسد التي اجتاحت مناطقهم؟ سؤال يكتسب وجاهة إضافية مع انسداد الأفق أمامهم، ومع ما كشف عنه الهجوم الأسدي-الروسي الأخير من نوايا الإجهاز على الوضع السابق برمته. قوات الأسد قدّمت الإجابة الأكثر توحشاً، عندما نقلت الصور لقطعانها وهي تقتل القلائل الذين لم يغادروا وتنكّل بجثثهم، وصولاً إلى نبش القبور والتنكيل بالموتى، وهذا نهج لا يخص الهجوم الأخير، بل هو معتاد منذ الاقتحامات الأولى في حمص والقصير ويبرود وغيرها.
تقنياً فقط، يصلح التذكير بأن هزيمة اليوم العسكرية استكمال لمسلسل الهزائم الذي بدأ مع التدخل الروسي في خريف 2015، والذي ظهرت أولى نتائجه بالسيطرة على الأحياء الشرقية لمدينة حلب، ليتوالى تنظيم الهزائم بعدها تحت لافتة مسار أستانة. خلال ما يقارب أربع سنوات ونصف السنة من عمر التدخل الروسي، كانت الهزيمة واضحة، أو تتضح بتسارع لمن لا يريد رؤيتها، ومع ذلك لم يبادر المعنيون بها عسكرياً إلى إعلانها. قد نقول الكثير عن قادة الفصائل، من أمراء الحرب الذين لا يريدون إعلان إفلاس تجارتهم، ويريدون التكسب منها حتى آخر شبر يسيطرون عليه، وقد نقول الكثير عن مموليهم أيضاً. ذلك لا يفسّر لنا امتناع الهزيمة بالنسبة للمدنيين الهاربين من الجحيم الأسدي، بقدر ما تتطوع قوات الأسد بتقديم التفسير.
في الأصل، لا يخبرنا التاريخ بأن الثورات جميعاً تنتصر، بل لدينا من الثورات المهزومة ما يفوق بأضعاف نظيرتها المنتصرة. على ذلك كان يمكن للثورة السورية أن تدخل التاريخ كثورة فاشلة، وقد يحاول بعض السوريين استخلاص دروس الفشل، وقد تأخذ الظروف وقتاً طويلاً جداً حتى تتهيأ لثورة جديدة، أو ربما يحدث التغيير بطيئاً، لكن بما يكفي لئلا تندلع ثورة على النمط المعروف للكلمة. إلا أننا في حالتنا السورية لم نصل “ومن المرجح ألا نصل” إلى هذه العتبة، فنحن إزاء وضع شاذ امتنع فيه النصر، وامتنعت فيه الهزيمة.
في الواقع أبدى سوريون وغير السوريين آراء عديدة في امتناع النصر، منها ما يُحيل إلى دور الأسلمة أو العسكرة أو التدخلات الخارجية، ومنها ما يُحيل إلى الانقسام المجتمعي الذي يتكفل من دون العوامل السابقة بالفشل. قد يحمل جزء كبير من التحليلات مجتمعة الصواب، أما إذا تحرينا الدقة فقد تأتي التتمة بالجواب عن سبب امتناع الهزيمة لا امتناع النصر فحسب. الحديث هنا عن الهزيمة بمعناها التقليدي، وفيها يقرّ الطرف الأضعف بخسارته، ويجني الطرف المنتصر مكاسب نصره السياسية والاقتصادية مُحكماً سلطته من جديد أو بأشد مما كانت عليه قبل الثورة.
التعريف الكلاسيكي لهزيمة الثورات لا يجيب على السؤال السوري، لأن الانتصار على الثورة لا يكون مقروناً بالإبادة على النحو شهدناه. والإبادة ليست نهجاً متأخراً لسلطة الأسد، بل كانت معلنة منذ بداية الثورة. من عايش التجربة يعلم جيداً أن المعلن والمستتر من قبل الأسد وشبيحته هو التنكيل واستباحة كل من تجرأ على الثورة في مشروع انتقام لا يشبع، وأن المعلن والمستتر لدى غالبية الذين ثاروا يتلخص في: إما الآن أو سنفقد الفرصة نهائياً. هذا الحد “الراديكالي” الذي فرضه الأسد هو خارج المفهوم التقليدي للصراع السياسي، أو خارج حتى المفهوم الرائج للاستبداد المشرقي، إذ نقل المسألة برمتها إلى “صراع وجود” بالمعنى الحرفي للكلمة، وجعل من الاستمرار بالثورة صراعاً من أجل البقاء أكثر منه صراعاً من أجل التغيير السياسي.
لم يكن الأمر يوماً لمن آمن بالثورة في حيز المكابرة على إنكار هزيمتها، فالمطلوب لم يكن في أي يوم هو هذا الاعتراف. المطلوب هو سحق من آمن بالثورة، وحتى سحق فكرة الهزيمة بمعناها الإنساني المتداول، فالمنتصر لا يريد خاسرين! التطبيع الدولي مع الأسدية كان يعني طوال الوقت التطبيع معها كما هي، فلم نشهد تغيراً ولو طفيفاً في سلوك قوات الأسد يدل على إعادة تأهيل مختلفة، بل رأينا إمعاناً في الممارسات ذاتها، وعلى نحو مكشوف أكثر من قبل، والغاية دائماً إفهام الجميع أنها في لحظة انكسارها وفي لحظة انتصارها ذات جوهر لا يتبدل. أبعد من ذلك، هناك على الأقل عشرات الآلاف من مؤيدي الأسد الذين غادروا البلاد بعد انطلاق الثورة، وسيحتفظون بولائهم من دون العودة إلى العيش تحت ظله والتمتع بانتصاراته لأنهم لا يطيقون العودة حقاً، وبصرف النظر عما في حالتهم من نفاق هم الأكثر شبهاً بالمجتمع الدولي الذي يقبل التطبيع مع الأسدية.
ليس هناك من درس سياسي يقدّمه امتناع النصر وامتناع الهزيمة معاً، هذه طبيعة معركة الوجود التي فرضها الأسد. بعيداً عن الاعتبارات العاطفية و”الوطنية”، لو كان العالم فيه قليل من الإنصاف لفُتحت الحدود أمام أولئك المهجّرين، وتُرك للأسدية أن تصرّف انتصارها بجزء من أبنائها ومواليها.