عنب بلدي – تيم الحاج
دائمًا تلفت تصريحات الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، المتعلقة بالشأن العسكري في سوريا، الأنظار، فتُفرد لها مساحات واسعة من التحليل في وسائل الإعلام، إذ إنها تأتي بمطالب كثيرة ذات سقف عالٍ متضمنة مهلًا وتهديدات.
لعل ما قاله وطالب به أردوغان، في أثناء معارك الجيش التركي و”الجيش الوطني” السوري في منطقة شرق الفرات، ضد “وحدات حماية الشعب” (الكردية) العمود الفقري لـ”قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) في تشرين الأول 2019، يشبه تهديداته الآن لقوات النظام السوري المتعلقة بإدلب، فلغة الخطاب حادة تُرجمت بمهلة لمدة شهر للنظام كي يوقف قضمه بدعم روسي وإيراني لمناطق إدلب وحلب.
“نبع السلام”.. أهداف تقلّصت
تأتي المعارك الدائرة في محافظتي إدلب وحلب الآن، بعد أقل من شهرين من انتهاء المعركة في شرق الفرات التي سمتها أنقرة “نبع السلام”، والتي تمكن خلالها الجيشان التركي و”الوطني السوري” من السيطرة على مدينتي تل أبيض بريف الرقة ورأس العين بريف الحسكة.
لم تحقق “نبع السلام” الخطط التي كانت أنقرة أعدتها لها في السابق، فقد كانت ترمي للسيطرة على المنطقة الممتدة من مدينة المالكية في ريف الحسكة إلى مدينة عين العرب في ريف حلب، والتوغل بنحو 32 كيلومترًا داخل الأراضي السورية، لإقامة منطقة آمنة فيها، بعد طرد “الوحدات” و”قسد” منها.
إلا أن المعركة شهدت اتفاقًا بين أنقرة وواشنطن، في 17 من تشرين الأول 2019، قضى بوقفها، وتضمن مهلة أعطاها الرئيس التركي لـ”قسد” كي تنسحب من شرق الفرات خلال 120 ساعة.
وقال حينها وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، إن بلاده علّقت عملية “نبع السلام” لمدة 120 ساعة من أجل انسحاب “الوحدات”، مؤكدًا أن هذا التعليق ليس وقفًا لإطلاق النار.
جاء ذلك عقب انتهاء اجتماع وفدي تركيا والولايات المتحدة برئاسة الرئيس التركي، ونائب الرئيس الأمريكي، مايك بنس، في العاصمة أنقرة.
وأشار الوزير التركي إلى أن بلاده تريد إقامة منطقة آمنة بعمق 32 كيلومترًا، وبطول 444 كيلومترًا، حتى حدود العراق شرق نهر الفرات في سوريا.
وأوضح جاويش أوغلو أن “تعليق العملية لا يعني انسحاب جنودنا وقواتنا من المنطقة فنحن سنواصل البقاء فيها، وسنتابع بشكل مباشر كل ما يتم تنفيذه عبر وجودنا في المنطقة ومصادرنا الاستخباراتية، وكل شيء سيتم أمام أعيننا وسنراقبه”.
لكن مماطلة واشنطن بتنفيذ هذا الاتفاق، على غرار الاتفاقات السابقة مع تركيا، بحسب رواية أنقرة، اضطرت الرئيس التركي لتوجيه البوصلة نحو نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، الذي يصفه مرارًا بـ”الصديق”، ليرمي ورقة إبعاد “الوحدات” عن شرق الفرات بيده.
تدخلت روسيا قبل انتهاء مهلة الـ120 ساعة التي أعطاها أردوغان لنائب الرئيس الأمريكي، وجرى حينها اتفاق بين بوتين وأردوغان، في 22 من تشرين الأول 2019، أنهى “نبع السلام” قبل أن تحقق كل ما كانت ترمي إليه.
وصف أردوغان اتفاق “سوتشي” المتعلق بشرق الفرات بـ”التاريخي”، على الرغم من أنه كان ينص على انسحاب “قسد” من المنطقة خلال 150 ساعة، وهذا ما لم يتم تطبيقه بشكل فعلي.
ونشرت وزارة الدفاع الروسية عبر موقعها الرسمي، في 23 من تشرين الأول 2019، خريطة للاتفاق تظهر مدينة منبج وتل رفعت في ريف حلب تحت سيطرة قوات النظام السوري، لكن في المقابل أظهرت الخريطة التي اعتمدها الرئيس التركي، من أجل شرحه اتفاق شرق الفرات، خلال مقابلة مع تلفزيون “TRT”، في 24 من تشرين الأول 2019، مدينة منبج وتل رفعت ضمن مناطق سيطرة “الجيش الوطني”، ولا دخول لقوات النظام إليها، وهو ما أكده عندما قال إن الجيش التركي سيكون له دور مراقب في مدينة منبج.
أما مدينة عين العرب في ريف حلب، فأكد أردوغان حينها، أن “روسيا كانت تدعو تركيا لدخول عين العرب، وعلى عكس الروس، كانت الولايات المتحدة تعارض دخولنا إلى تلك المدينة، ونحن سنتخذ قرارنا وفق المستجدات”.
والآن وبعد مضي نحو أربعة أشهر على توقيع الاتفاق الذي أنهى نبع “السلام”، لم تدخل تركيا إلى عين العرب، واكتفت بما حصلت عليه قبل الاتفاق (تل أبيض ورأس العين).
في حين تمكن النظام من دخول شرق الفرات والتغلغل في المناطق التي تسيطر عليها “قسد”، والوصول إلى الحدود مع تركيا، بعد إجراء اتفاق معها، في 13 من تشرين الأول 2019، برعاية روسية، كان يهدف إلى وقف زحف الجيش التركي.
إدلب مسرح التطورات
يكاد يكون المشهد في أرياف إدلب وحلب التي تشهد تقدمًا متسارعًا لقوات النظام وروسيا، مشابهًا لما كان يجري في “نبع السلام”، لجهة التصريحات والتحركات التركية.
فقد أبدت أنقرة رفضها توغل النظام، متهمة موسكو بدعم خرق اتفاق “سوتشي” المتعلق بمنطقة خفض التصعيد في إدلب.
وينص الاتفاق الذي وقعه بوتين وأردوغان، في 17 من أيلول 2018، على إنشاء منطقة منزوعة السلاح في إدلب وتسيير دوريات مشتركة في المنطقة، وسحب السلاح الثقيل من الفصائل.
إلا أن قوات النظام، المدعومة من قبل سلاح الجو الروسي، لم تلتزم بالاتفاق، وشنت منذ توقيع اتفاق إدلب خمس عمليات عسكرية، بدأت أحدثها، في منتصف كانون الثاني الماضي، وما زالت مستمرة، حيث يصر النظام على فتح الطريقين الدوليين “M5″ و”M4” وتأمين محيطهما، مستندًا إلى الدعم العسكري الروسي على الأرض، والسياسي حيث تمارس موسكو ضغوطًا على أنقرة وتتهمها بالإخلال بتنفيذ بنود الاتفاق وخاصة إخراج “الجماعات الإرهابية” من إدلب.
وأمام تقدم النظام الذي سيطر على مدن استراتيجية في ريف إدلب كسراقب ومعرة النعمان وخان شيخون، سعيًا لفتح الطرق الدولية، إضافة إلى مقتل جنود أتراك على يد قوات النظام في إدلب، أطلق الرئيس التركي تهديدًا صريحًا بالتدخل عسكريًا لوقف تقدم النظام.
وفي 12 من شباط الحالي، توعد الرئيس التركي النظام السوري في إدلب وداعميه، روسيا والميليشيات الإيرانية، بشن عملية عسكرية واسعة في حال عدم انسحاب النظام إلى خلف النقاط التركية قبل نهاية شباط الحالي.
وفي حال تطبيق الاتفاق وتنفيذ أردوغان لتهديده، فإنه يجب على قوات النظام أن تنسحب حتى نقاط المراقبة التركية في مدينة مورك بريف حماة الشمالي.
ورفع الجيش التركي جاهزيته العسكرية في إدلب، عبر الدفع بأرتال عسكرية كبيرة إلى هناك، وإنشاء نقاط مراقبة له بين ريفي إدلب وحلب، بالإضافة إلى استقدام قوات “كوماندوز” تركية، وقد وصل عدد الدبابات في إدلب إلى 70 و200 مدرعة و80 مدفعًا، بحسب “روسيا اليوم“.
وإلى جانب الدعم العسكري، تحافظ أنقرة على خطوط التواصل مع موسكو سعيًا لإيجاد حل في إدلب.
وأعلن وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، أن وفدًا من بلاده سيتوجه إلى روسيا، لبحث ملف محافظة إدلب.
وقال في 15 من شباط الحالي، إنه يجب التوصل إلى وقف فوري لإطلاق النار في إدلب، وإنه لا يمكن تحقيق أي استقرار سياسي فيها عن طريق الحل العسكري، وإن المباحثات مع الجانب الروسي يجب أن تبقى دبلوماسية.
وأضاف أن بلاده ستتخذ خطوات حاسمة إذا لم تصل مع روسيا إلى توافق بشأن إدلب.
طلب تركيا من النظام الانسحاب إلى ما بعد النقاط التركية في إدلب يصعب تحقيقه أمام الدعم السياسي الكبير الذي تقدمه موسكو لشرعنة تقدم النظام، إضافة إلى أن قوات النظام لم يسبق أن انسحبت من منطقة كانت قد أعلنت في بيان رسمي أنها سيطرت عليها، ما يضعف موقفها في حال رضخت للتهديدات التركية.
ويشير تعقد الموقف على الأرض إلى جانب التهديدات التركية للنظام، إلى أن أنقرة ستواجه سيناريو مشابهًا لما جرى في “نبع السلام”، حيث تقلصت مطالبها وانتهت بعقد اتفاق بين أردوغان وبوتين.