عنب بلدي – صالح ملص
قبل 22 عامًا وجهت تركيا تهديدات مباشرة للرئيس السوري السابق، حافظ الأسد، وحركت آلياتها العسكرية على الحدود، لينتهي التوتر آنذاك بالتوصل لاتفاقية “أضنة” بين الجانبين، في ظروف تشابه ما يحصل اليوم في إدلب، حيث يحاول النظام السوري التقدم إلى الحدود التركية، بينما ترسل تركيا تعزيزاتها العسكرية إلى المنطقة، ملوحة بشن هجوم عسكري ضد النظام.
تواصل قوات النظام السوري التقدم في مناطق سيطرة المعارضة في شمالي سوريا، وفي الأسابيع الماضية سيطر النظام على أكثر من 30 بلدة ومدينة في إدلب، من ضمنها مدن استراتيجية، مثل مدينة معرة النعمان، أكبر مدن ريف إدلب الجنوبي، ومدينة سراقب بالريف الشرقي، الواقعة على نقطة تقاطع الطريقين الدوليين، دمشق- حلب (M5) واللاذقية- حلب (M4).
ويأتي التقدم العسكري المتسارع لقوات النظام بالرغم من تهديد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في مناسبتين منفصلتين خلال الأيام الماضية، بمحاسبة قوات النظام إذا لم تنسحب من المناطق التي سيطرت عليها إلى المناطق المحددة باتفاقية “سوتشي” الموقعة بين روسيا وتركيا في أيلول 2018، والتي تنص على إقامة منطقة منزوعة السلاح بعمق 15 إلى 20 كيلومترًا داخل منطقة “خفض التصعيد”.
وكان أردوغان أمهل قوات النظام لتنفيذ هذا الانسحاب حتى نهاية شباط الحالي.
وأبلغ الرئيس التركي، في 5 من شباط الحالي، نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، مهددًا بأن القوات التركية “ستقوم بما يلزم” إذا لم يتحقق الانسحاب من قبل قوات النظام، معتبرًا هذا التصعيد “حقبة جديدة في سوريا” ستعيشها تركيا، بشن عملية عسكرية في محافظة إدلب.
ويأتي هذا التصعيد من أنقرة بعد مقتل 13 جنديًا تركيًا جراء قصف قوات النظام نقاط المراقبة العسكرية التركية في المنطقة، التي حوصرت نقاط منها في مورك بريف حماة وريف إدلب الجنوبي بالقرب من معرة النعمان وفي محيط مدينة سراقب.
تاريخ من التوترات
تعيد تهديدات أردوغان هذه تاريخ التوتر السوري- التركي إلى الواجهة، الممتد من آب عام 1957، حين حشدت تركيا آلاف الجنود على حدودها الجنوبية، لمنع الحكومة السورية برئاسة شكري القوتلي من الانحياز لمعسكر الشيوعية، وانتهت هذه الأزمة بتكثيف سوريا علاقتها مع البلدان العربية، بتوقيع اتفاق الوحدة مع مصر عام 1958.
اتجه التوتر فيما بعد بين البلدين إلى مياه نهر الفرات، الذي ينبع من هضبة أرمينيا في تركيا ويمر في سوريا والعراق، ما يعني أن تركيا تتحكم بشكل أساسي في كميات الضخ والمنسوب.
وفي عام 1990 حولت تركيا مياه النهر لمدة شهر كامل لملء سد أتاتورك، فاحتجت سوريا على انخفاض منسوب الفرات بين الحدود الشمالية وبحيرة الأسد بمقدار ثلاثة أمتار، وأضر ذلك بزراعة المحاصيل الشتوية.
وتمت تسوية الخلاف بتوقيع اتفاق أمني بين البلدين عام 1992، لكن الاتفاق تعطل لمواصلة تركيا مشاريعها على الفرات، ما نتج عنه استخدام الكرد من قبل حافظ الأسد كورقة ضغط على تركيا، بدعمه نشاط حزب “العمال الكردستاني” داخل سوريا، مستفزًا بذلك أنقرة.
تهديد 1998.. للصبر حدود
“للصبر حدود”، بهذه العبارة وجه وزير الدفاع التركي آنذاك، عصمت سيزجين، في تشرين الأول عام 1998، تهديده باجتياح الحدود السورية للقضاء على نشاط حزب “العمال الكردستاني”، بعد أن قرر مجلس الأمن القومي التركي حينها اتخاذ موقف حاسم تجاه سوريا، منذرًا بنهاية الدبلوماسية، وأن تركيا “ستلعب اللعبة وفق قوانينها الخاصة”، بحسب تعبير سيزجين.
وخضع الأسد الأب لهذا التهديد، بحظر نشاط حزب “العمال” على الأراضي السورية، وقطع العلاقات معه بإغلاق معسكراته في سوريا ولبنان، وإنهاء الدعم المالي له.
وكان من مضامين قطع العلاقات، ترحيل زعيم حزب “العمال”، عبد الله أوجلان، المقيم سابقًا في دمشق، وبذلك تسليمه للاعتقال، بشكل غير مباشر، من خلال ترحيله إلى روسيا لتخطفه تركيا بعد ذلك حيث كان في كينيا عام 1999. ويقضي أوجلان الآن عقوبته بالسجن مدى الحياة في جزيرة امرالي التركية.
وسعت أنقرة بداية الأمر التحركات الدبلوماسية لإنهاء إيواء حزب “العمال” من قبل حافظ الأسد، الذي أنكر دعمه للحزب، وبدأت هذه التحركات منذ عام 1984، رغم إجراء أوجلان مقابلات مع وسائل إعلام دولية من موقعه في العاصمة دمشق.
وكانت شعبية أوجلان تتصاعد في سوريا آنذاك، في سبيل الضغط على تركيا، كما سمح الأسد لحزب “العمال الكردستاني” بإطلاق عملياته العسكرية ضد الجيش التركي من قواعد له شمالي سوريا، لتصنفه تركيا والاتحاد الأوروبي وأمريكا كـ”منظمة إرهابية”.
جاء موقف أنقرة الرافض لدعم الأسد حزب “العمال الكردستاني” وفقًا لمعطيات قانونية دولية، فبحسب مكتب منع الإرهاب التابع للأمم المتحدة، يجب على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة الالتزام بتسليم الأشخاص المنتسبين لمنظمات إرهابية أو ملاحقتهم، وبسط الولاية القضائية بهدف محاكمة مرتكبي الأعمال الإرهابية، ومنع تمويلهم ماديًا بشكل مباشر أو غير مباشر، أو التعاون معهم، الأمر الذي طالبت به أنقرة سوريا.
وكان قرار الأسد الأب التفاوض مع تركيا مرتبطًا بقلقه من قوة الجيش التركي، ولتجنب المزيد من التوترات بين البلدين في ذلك الوقت، إذ كانت تمهد لإشعال الحرب بينهما، واختراق الشمال السوري، بحسب مقال نشرته الصحفية سينم جنغيز، في 25 من كانون الثاني 2019.
مهد ذلك التفاوض إلى توقيع اتفاقية “أضنة” الأمنية السرية وقتها، بين دمشق وأنقرة، في 20 من تشرين الأول 1998، بوساطات إقليمية ودولية وخاصة مصر.
اتفاقية “أضنة”
الاتفاقية الأمنية كانت نقطة تحول رئيسة في مسار العلاقات بين البلدين، وبدأت الزيارات المتبادلة بينهما على مستوى مسؤولين أمنيين وعسكريين وسياسيين، كانت أولاها حضور الرئيس التركي آنذاك، أحمد نجدت سيزر، جنازة الأسد الأب في عام 2000، وهو ما كان مؤشرًا على علاقات جديدة مع سوريا، عادت للتدهور منذ بداية الثورة السورية عام 2011.
وأعيد طرح هذه الاتفاقية على طاولة المفاوضات بعد أن أصبح لتركيا وجود عسكري واضح داخل الأراضي السورية، وعزمها إقامة “منطقة آمنة” بالتوافق مع واشنطن في منطقة شرق الفرات، إذ دعا الرئيس التركي، إلى مناقشتها مجددًا مع سوريا، في 24 من كانون الثاني عام 2019.
وتأتي “المنطقة الآمنة” بعمق 32 كيلومترًا، أي بزيادة 27 كيلومترًا على بنود اتفاقية “أضنة”، في محاولة من أنقرة لطرد “وحدات حماية الشعب” (الكردية) التي تعتبرها امتدادًا لحزب “العمال الكردستاني”.
وتنص الاتفاقية على تعاون البلدين في مكافحة الإرهاب، وإنهاء دمشق جميع أشكال الدعم لحزب “ العمال” ومنع تسلل مقاتليه إلى تركيا.
وينص البند الثاني من الاتفاقية على احتفاظ تركيا بحقها في الدفاع عن نفسها، والمطالبة بتعويض عن الخسائر في الأرواح والممتلكات في حال لم توقف دمشق دعمها فورًا للحزب.
وأعطى البند الثالث أنقرة الحق “بملاحقة الإرهابيين” لعمق خمسة كيلومترات داخل الشمال السوري، واتخاذ التدابير الأمنية اللازمة إذا تعرض أمنها القومي للخطر، ولم تستطع سوريا مكافحة عمليات الحزب.
أما البند الرابع، فنص على اعتبار الخلافات الحدودية بين البلدين منتهية من تاريخ التوقيع على الاتفاقية، وعدم مطالبة الطرفين بأراضي الطرف الآخر، وهو السبب الذي تخلى النظام السوري بموجبه عن لواء اسكندرون.
تبدل الحال مع الأسد الابن؟
على خلفية التصريحات التي توعد بها الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، النظام السوري وداعميه، روسيا والميليشيات الإيرانية، وصفت حكومة النظام تلك التصريحات بأنها “جوفاء وممجوجة“، غير مبالية بأي احتمالية بتنفيذ عملية عسكرية في إدلب.
واعتبر مصدر في الخارجية السورية، بحسب وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا)، في 12 من شباط الحالي، أن تصريحات أردوغان “جوفاء فارغة وممجوجة لا تصدر إلا عن شخص منفصل عن الواقع، غير فاهم لمجريات الأوضاع والأمور، ولا تنم إلا عن جهل”.
ويساعد الطيران الروسي قوات النظام في التقدم بمدن وبلدات إدلب، وتبرر موسكو عملياتها بوجود “هيئة تحرير الشام” التي تسيطر على مساحات واسعة من إدلب وريفها، والمصنفة كـ”إرهابية” في كل من روسيا وتركيا وأمريكا.
وتلعب عدة مجموعات مسلحة دورًا في دعم قوات النظام في التقدم بالمعارك الدائرة في ريف حلب الغربي وريف إدلب الشرقي، من بين تلك المجموعات، ميليشيات إيرانية تابعة لـ“الحرس الثوري” الإيراني.
كما نشرت مجموعة “Macro Media Center” المستقلة تسجيلات صوتية قالت إنها تعود إلى حديث مقاتلين أفغان، خلال خوضهم معارك ضد فصائل المعارضة السورية في محافظة إدلب.
وبحسب ما نشرته صحيفة “التلغراف” البريطانية عن المجموعة، في 26 من كانون الثاني الماضي، كشفت التسجيلات آلية توجيه مقاتلين إيرانيين وأفغان خلال العمليات العسكرية في إدلب.
بينما تواصل تركيا إرسال تعزيزات عسكرية بشكل يومي إلى داخل محافظة إدلب، وتتمركز في مدن وبلدات تخضع لسيطرة المعارضة أو في نقاط المراقبة التي أنشئت بموجب اتفاقية “سوتشي” مع روسيا.
وتتخذ تركيا اتفاقية “أضنة” ذريعة لدخول سوريا في إطار حقوقها المتوافقة مع القانون الدولي، لكن حكومة النظام السوري تعتبره انتهاكًا وخرقًا للاتفاقية، التي تصب، وفقًا للنظام، في ضمان أمن الحدود بين البلدين، وتهدف إلى “مكافحة الإرهاب” من قبل الجيش التركي ومن ثم الانسحاب خارج الحدود السورية.
و”استهجن” النظام، في 5 من شباط الحالي، تصريحات أردوغان حول إدخال قوات تركية إلى المنطقة بموجب الاتفاقية، بحسب ما نقلته وكالة “سانا” عن مصدر في وزارة الخارجية.
وتحاول تركيا فرض شروط جديدة من أجل الحصول على أوراق ضغط على طاولة المفاوضات مع روسيا، من خلال اتفاقية جديدة تسمح لها التدخل بمساحة أكبر وفق اتفاقية “أضنة”، في محاولة لترسيخ وجودها في مدينة إدلب، كون هذه المدينة تعتبر منطقة حدودية تعزز من أمن تركيا القومي، وهو ما توصلت إليه عنب بلدي في تحقيق بعنوان “إدلب رهينة الضامنَين.. لمن الغلبة“.