اغتيال مُعلن

  • 2020/02/16
  • 12:00 ص

إبراهيم العلوش

مقتل الجنود الأتراك الثلاثة عشر، ومحاصرة نقاط المراقبة التركية في الشمال السوري، يعيدان إلى الأذهان عملية اغتيال السفير الروسي في أنقرة، أندريه كارلوف، على يد الشرطي السابق مولود ألطنطاش، فهل كانت تلك الجريمة عملية استعادة لتاريخ طويل من العداء بين الروس والأتراك ويدفع السوريون اليوم فاتورتها؟

كان السفير الروسي أندريه كارلوف يتقن اللغة الكورية وأحد مهندسي العلاقة الغامضة بين كوريا الشمالية وروسيا، ونُقل إلى أنقرة للإسهام في خلق محيط مريح للمستعمرة الروسية الجديدة في حميميم السورية.

ففي معرض للتصوير الضوئي لفنانين أتراك بعنوان “روسيا في عيون الأتراك”، وفي أثناء حديث السفير خلال افتتاح المعرض، بتاريخ 26 من كانون الأول 2016، انهالت عليه رصاصات القاتل وأردته صريعًا في جريمة سياسية استنكرها العالم، وكادت حينها أن تزعزع العلاقات التركية- الروسية، خاصة أنها تعرضت لهزة عنيفة بعد إسقاط طائرة روسية “سوخوي 24” قرب الحدود التركية- السورية، في 24 من تشرين الثاني 2015.

عملية الاغتيال السياسي التي حدثت للسفير الروسي على يد شرطي تركي، تعبّر عن تاريخ طويل من عدم الثقة بين الدولتين الروسية والتركية منذ حروب القرم في القرن التاسع عشر، وربما أقدم من ذلك بكثير، فالروس لطالما تعاملوا باستهانة مع الدولة العثمانية، وحاولوا في نهاية القرن التاسع عشر انتزاع أجزاء منها، ولكنهم فشلوا، ليس بسبب قوة الدولة العثمانية، وإنما بسبب دعم الدول الغربية كبريطانيا وفرنسا للدولة العثمانية، رغبة من تلك الدول في إبقاء روسيا أسيرة الجغرافيا المغلقة التي تطوقها وتمنعها من التمدد إلى طريق الهند والبحار الدافئة. وتم تتويج ذلك العداء بانضمام تركيا في الحرب الباردة إلى حلف “الناتو”، الذي كدس الأسلحة فيها لاستهداف التحركات الروسية طوال نصف قرن أو أكثر.

استهداف الجنود الأتراك في نقاط المراقبة، وقتل ثلاثة عشر جنديًا منهم، يعيد النظر إلى المرحلة الوردية التي مرت بها العلاقة الروسية- التركية إبان اتفاقات “سوتشي” و”أستانة”، واللقاءات الرئاسية التي حدثت بين الدولتين، ويستحضر عملية اغتيال السفير الروسي، والتاريخ الطويل من عدم الثقة بين الدولتين رغم تجارة الصواريخ والسياحة والخضار بينهما، ويضع علاقتهما في إطار ملطخ بدماء السوريين الذين يتم تهجيرهم ورميهم في البراري.

اللاعبان الروسي والتركي ينظران إلى التهجير في إدلب كل من منظاره المختلف، فالروس لا يهمهم حقوق الإنسان السوري ولا حقه بالعيش طالما لا يخضع للإرادة الروسية ولا يرضخ للنظام الاستبدادي الذي اختاره الروس كقماشة لإعادة صنع كوريا شمالية جديدة في المنطقة بمعونة إيرانية، واستغلالها كما تستغل إيران حزب الله ضد إسرائيل وضد الغرب.

بينما ينظر الأتراك إلى عملية التهجير كخدعة أوقعهم الروس فيها عبر سلسلة طويلة من اللقاءات الدبلوماسية التي جعلتهم أخيرًا مكتوفي اليدين في سوريا وغير قادرين على إنقاذ السوريين، بل حتى جنودهم في نقاط المراقبة صاروا هدفًا للميليشيات الإيرانية والأسدية.

فالروس يزحفون باتجاه الشمال السوري ببساط ناري يُجبر الناس على الهجرة باتجاه تركيا، وهم يريدون الأراضي المستعادة من دون سكان، لسهولة إعادة حكمها وهندستها ديموغرافيًا، بحيث تُستبعد الطائفة السنية من الوجود في أراضيها كما يقول سونر جاغايتاي في معهد واشنطن للدراسات.

وتستهدف روسيا بهذا التهجير ابتزاز أوروبا من أجل الاعتراف بنظام الأسد ودعمه ماليًا، مقابل وقف التهجير وإصدار عفو من قبل النظام يخفف من فرار الناس ومن رفضهم العودة إلى حكم نظام الأسد الطائفي، لكنّ الأوروبيين لا يثقون بوعود الروس، ولا بمراسيم العفو التي يصدرها نظام الأسد، الذي امتهن التعذيب والتدمير لفرض وجوده ولاستمراره في حكم سوريا.

من ناحية أخرى، فإن استمرار روسيا بقصف إدلب وتهجير مئات ألوف الناس ورميهم في البراري، يعبر عن إصرار التيار النازي في العسكرية الروسية على ارتكاب الفظائع، التي تعتبر استمرارًا لجرائم الجيوش الروسية عبر المئة عام الأخيرة.

فالجيش الروسي يمارس القصف والتهجير بشغف، وكأنه يستعيد كل تجاربه في أفغانستان وفي أوروبا الشرقية، بالإضافة إلى أدواره في قهر شعوب الاتحاد السوفيتي، وتهجير شعوب بأكملها إلى أماكن جديدة اختارها ستالين ولجانه المركزية للحزب الشيوعي والجيش والميليشيات العسكرية!

وكذلك تنظر القيادات الروسية إلى المذابح والتهجير في سوريا كعملية استراتيجية تستهدف بناء سمعة روسيا في تجارة الأسلحة وتدريب جيوشها، وفي فرض إرادتها كدولة مهزومة تحاول استعادة مكانتها التي فقدتها منذ انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 على حساب الدم السوري، في تحدٍّ صارخ لحقوق الإنسان.

منذ اغتيال السفير الروسي في أنقرة وصولًا إلى استهداف الجنود الأتراك في نقاط المراقبة، يدفع السوريون أثمانًا لا علاقة لهم بها ويخضعون للاغتيال العلني، وللتهجير، وهدر حقوقهم في عمليات لجيوش بينها ثارات واغتيالات، وتحالفات، ونقض للتحالفات، وصاروا موضوعًا لاستعادة التواريخ المملوءة بالريبة بين الروس والأتراك، وبين الأتراك والإيرانيين، وحتى بين الإيرانيين والروس.

وحده النظام وقادته يقفون باستعداد قرب الجدار بانتظار الأوامر التي تصدر إليهم من الروس أو من الإيرانيين لتنفيذ إرادتهما واستكمال رغبتهما بتدمير سوريا، من أجل أن تبقى عائلة الأسد وشرعيتها الهزيلة التي يحتاجها المحتلون الجدد من أجل بناء نفوذهم على حساب إرادة السوريين وحقوقهم المهدورة!

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي