الأمريكيون في إدلب.. وحسابات الحرب البعيدة
بقلم: أسامة آغي
الهجمات التي تعرضت لها نقاط المراقبة التركية في إدلب، لم تكن فعلًا ذاتيًا قام به النظام السوري خارج ضوء أخضر من حليفيه الروسي والإيراني، فالنظام بعد تسع سنوات من قيام الثورة السورية، لم يعد يملك القوة العسكرية القادرة على مثل هذه الهجمات.
هذه الرؤية الملموسة، تكشف عن تغيّر حقيقي في التزام الروس والإيرانيين باتفاقات “أستانة” و”سوتشي”، وتبيّن أنهما اعتمدا هذه الاتفاقات كمرتكزات لمزيد من مدّ نفوذهما في مناطق خفض التصعيد والتوتر، وهذا الأمر اتضح في حلب والجنوب السوري بصورة فاقعة، ولهذا يندرج هجوم النظام السوري على مناطق إدلب ضمن معادلة توسيع نفوذ الروس والإيرانيين، اللذين أسهما بقوة في العمليات العسكرية في هذه المنطقة.
الغاية الرئيسة من الهجوم على إدلب، يمكن فهمها لإخراج الضامن التركي خارج المعادلة السياسية والعسكرية، وكذلك لبسط نفوذ النظام وميليشياته والوجود الروسي في هذه المحافظة، ما يعني تهجيرًا واسعًا لسكانها الأصليين وللمدنيين السوريين الذين نزحوا إليها. هذه الحالة تعني إخضاع إدلب لمصلحة الحل الروسي الذي يريد تعويم النظام السوري بطريقة التعديلات على صورته الشكلية المرفوضة دوليًا، وهو يعني الالتفاف على القرار الدولي 2254.
الهجمات على إدلب تتناقض جوهريًا مع الدور التركي كضامن وكجار لسوريا، وبالتالي تشكل تهديدات على أمن الدولة التركية، وهو ما يعني ضرورة فرض الالتزام بهذه الاتفاقات على الروس والإيرانيين، اللذين انتهكا التزامهما بها.
ومن جهة أخرى، تشكّل هذه الهجمات خطرًا على استراتيجية الولايات المتحدة في عموم منطقة الشرق الأوسط، التي تتمثل بإخراج إيران من مناطق نفوذها في هذه المنطقة، وهذا الأمر دفع أكثر من مسؤول أمريكي للتصريح علنًا، بأنهم يقفون مع تركيا ضد الهجمات التي تعرضت لها نقاط المراقبة التركية في إدلب، وكذلك تندرج تصريحات الأمين العام لحلف شمال الأطلسي في هذا السياق، إذ أعلن وقوف دول الحلف مجتمعة مع تركيا ضد تعرّض قواتها لأي هجمات من النظام وحليفيه الروسي والتركي.
وفق ما تقدم، يمكن تحديد أبعاد خطاب الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، في 12 من شباط الحالي، الذي قال فيه “في حال اعتداء قوات النظام السوري على قواتنا، سنضربها حتى في المناطق غير المشمولة باتفاق سوتشي”. هذا يعني تحولًا جوهريًا في الموقف التركي، من موقعه كضامن لاتفاقات “أستانة” و”سوتشي”، إلى موقع الردع العسكري المباشر لأي تهديدات تتعرض لها القوات التركية الضامنة.
ولعل قول الرئيس أردوغان “إن الطائرات التي تقصف المدنيين في إدلب، لن تستطيع التحرك بحرية، كما كان في السابق”، يعني عسكريًا أن الهجمات الجوية منذ الآن ستتعرض للتشويش الإلكتروني، وكذلك ستتعرض الطائرات المهاجمة للصواريخ المتطورة، وهذا تمّ بالفعل بعد إسقاط طائرة هيلكوبتر وأخرى مقاتلة.
إن التبدل في مواقع التحالفات السابقة، وضع المخطط الروسي برمته بشأن ملف الصراع السوري في موضع الخلخلة وبدء الانهيار، فخروج تركيا من معادلات “أستانة” و”سوتشي” وفق الطريقة الروسية، يجعل من هذه المعادلات أمرًا غير قابل للحياة. هذه الخلخلة لن تتوقف عند حدود منطقة خفض التصعيد الرابعة، بل ستشمل بقية مناطق خفض التصعيد، بعد الخروج الروسي على هذه الاتفاقات، التي يتلاقى جوهرها وفق الفهم التركي مع جوهر القرار الدولي 2254.
إذًا، يمكن القول إن معادلات جديدة ينتظرها ملف الصراع السوري، هذه المعادلات تتمثّل بتغيّر عميق على صعيد الأفق الخاص بها، فالأفق الروسي السابق صار مسدودًا أمام محاولات روسيا الهيمنة على كل ملف هذا الصراع، وهو ما يعني أن الروس لن يتمكنوا مطلقًا من اللعب كطرف أكبر، أو كطرف وحيد في هذا الملف.
أما الأفق الجديد فيتمثّل بتعاظم الدور التركي في مسألة اتجاهات الحل السياسي في سوريا، ولعل تصريحات رئيس حزب الحركة القومية التركي، دولت بهتشلي، التي قال فيها إن وجود نظام بشار الأسد في الحكم لن يسمح إطلاقًا بنهاية للصراع في هذا البلد، ولذلك يجب أن تذهب القوات التركية إلى دمشق وتسقطه. هذا الرأي يمثّل أقصى الضغوط على حلفاء النظام السوري، وبالتالي عليهم مراجعة مواقفهم وحساباتهم.
لهذا صار من حق المراقبين لتطورات الصراع السوري، أن يروا أن مرحلة ما بعد الهجوم على إدلب، لن تكون مثل حالها قبل هذا الهجوم، وهو يعني سياسيًا، إما العودة عن هذا الهجوم، وهو ما حدّده الرئيس أردوغان بضرورة انسحاب قوات النظام إلى ما بعد نقاط المراقبة التركية، أو الذهاب إلى مواجهة عسكرية غير متكافئة بالنسبة للنظام السوري مع الجيش التركي الذي تلقى تأييدًا من حلف شمال الأطلسي، باعتبار تركيا دولة عضوًا في هذا الحلف.
إن دخول الولايات المتحدة على خط الحرب في إدلب عبر إرسال مبعوثها الخاص بالملف السوري، جيمس جيفري، إلى أنقرة، وترافق ذلك مع تصريحات مايك بومبيو، وزير خارجيتها، المؤيدة لتركيا، وزيارة الأمين العام لحلف شمال الأطلسي لتركيا، وكذلك رفع الولايات المتحدة العقوبات عن الوزراء الأتراك الثلاثة (الدفاع، والداخلية، والاقتصاد)، إضافة إلى استخدام سلاح الصواريخ المضادة للطائرات، يدل على توجه جدي للولايات المتحدة بضرورة طرد إيران من سوريا، ومنع الروس من الهيمنة على الملف السوري.
ولهذا نعتقد أن الروس لن يجازفوا بحرب مع تركيا، ومع حلف شمال الأطلسي، لأن مثل هذه الحرب لن تكون في مصلحتهم، بل ربما أدّت إلى نتائج شبيهة بحربهم في أفغانستان في سبعينيات القرن الماضي.
إذًا، الروس مضطرون لجرد حسابات جديد في معادلة الصراع السوري، يتمثل بضرورة حسابات الحرب التي ينخرطون في معمعتها، وبتغيير رؤيتهم في استراتيجيتهم السابقة، وكذلك ينطبق الأمر على الأمريكيين والأتراك، فهما حليفان تاريخيان، وعضوان في حلف عسكري دولي واحد.
وهذا يجعلنا ننظر إلى أن الروس سيحاولون إيجاد مربعات تقاطع جديدة وممكنة مع الأتراك والأمريكيين، وهم يعرفون تمامًا أن هذه التقاطعات سترتكز أخيرًا على تغيير نظام الحكم في سوريا وفق مخرجات القرار الدولي 2254، الذي يبدو أنه القدر الأخير لهذا الصراع.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :