وطن في حقيبة
حنين النقري – دوما
لو سُئلتَ يومًا عن الحاجات التي ترغب باصطحابها في رحلة ما دعيت لها للتو، لعددت -غالبًا- قائمةً طويلةً تشمل كل ما تعتقد أنه ضروري لا يمكنك العيش من دونه… لباس، طعام، شراب، ساعة، أوراق، كتب، جوال، حاسب… إلخ.
لكن!! لو أُرغمت على ترك منزلك إلى اللامكان خلال مهلة قصيرة… حينها ستُدرك تمامًا الفرق الواضح بين ما هو ضروري فعلًا؛ وبين ما كنت تَخالُه ضروريًّا!
عن النزوح حديثي..
عن تلك التجربة الفريدة… المضنية الشاقّة… المنجم الأكبر للدروس والعبر، بشكل لم تحسب أن الحياة ستعطيك إياه.. بهذا التركيز.. وبهذه الكثافة…
ولئن قيل يومًا أن السفر يكشف خبايا النفوس… فإن النزوح سيجعلها أكثر رقّة.. أكثر إنسانية -أو على الأقل.. من المفترض أن يفعل-!
كيف يمكن لمن هو مضطرّ ومرغمٌ على الخروج تحت القصف، لا يملك إلّا حقيبته على ظهره.. أن يشعر بالتعالي أو الكبر على من يشاركه التجربة ذاتها؟!
تلك الوسادة الوثيرة السميكة… تلك التي لطالما كنت تحسب أن النوم لن يعرف طريقه إلى عينيك إلا من خلالها… ستذكرها اليوم عندما تضع رأسك على حقيبة ثيابك وتنام من شدّة الإنهاك والتعب… هل لازلت تعتبرها ضرورية لك لتنام؟!
أصناف الطعام الكثيرة المتنوعة على مائدة واحدة… الطعام الملقى في سلة المهملات مع القمامة… هل تذكر كل هذا أثناء وقوفك على طابور طويل لشراء ربطة خبز واحدة؟
أدري أنها تجربة صعبة على النفوس والأجساد معًا… ونتمنى جميعًا أن نخرج منها سريعًا…لكنها فرصة للتفكر أيضًا!
فرصة للاستمتاع بلحظات لم تَخْبرها، للتخفف من أشياء وأشياء وأشياء كانت تحيط بك دومًا…
للتسامي عن الضغائن والحقد والتركيز على ما يجب التركيز عليه..
فرصة ﻷن تنقّي قلبك من رواسب المادّية، الاستهلاك، والكبر، والكماليات المترفة التي لا حدّ لها..
سنعود جميعًا… وستعود لوسادتك وسريرك.. غرفتك.. بيتك… بلدك.. لا تقلق!
لكن لا تسمح لنفسك أن تخرج من هذه التجربة الغنيّة كما دخلتها!
استمتع حقّا بقدرتك على العيش مع أبسط مما اعتدت.. وبالاحتكاك مع أشخاص جدد… تناول وجبات مختلفة والحياة من دون عاداتك وروتينك السابق!
النوم على الأرض لجسد يجربه للمرة الأولى… استشعر ملمسَ الأرض على أنحاء جسدك.. بكل حبّ!!
ستنظر فيّ باستغراب… لا بأس… كل ذلك آني.. فلم لا تحاول الاستمتاع به؟
صدقني سنعود..
لكن هل لنا أن نذكر حينها هذه اللحظات كلّها؟
هل لنا أن نتذكر ما هو ضروري حقّا للعيش؟ والحاجات الأساسية الواجب توافرها للجميع كحدّ أدنى في سورية الغد؟
هل سيعزز جوّ عدم الاستقرار والتنقل إحساسنا بمن هم كذلك من دون حرب؟
نريد أن نبني وطنًا أجمل بالتأكيد… لكن الأهمّ.. سعيُنا لأن يكون أكثر عدلًا!
هل ستجعلنا تجربة النزوح والعيش المشترك مع عدد كبير من الأفراد بمكان ضيق… ندرك أهمية تأمين السكن ﻷشخاص أكثر… بمساحات أقل..
هذا المعين من الصبر… هذا الكم من المواقف والقصص التي جرت على مسامعنا ومرآنا في مكان ما.. هل سنستلهم منه يومًا إن صادفنا موقف يحتاج منا لصبر وصمود؟
هل لنا أن نبني وطننا – الذي سيخرج من حربه منهكًا- بأدواتنا البسيطة وإمكانياتنا المتوفرة… بسواعدنا نحن؟
هل سنذكر في فترة بناء الوطن بإمكانيات بسيطة – ربما سنتذمر من قلتها…. أننا كنا نحمل يومًا… وطنًا في حقيبة؟
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :