“هادا الشعب السوري شعب ما بيموت ولا يجوز أن يموت وإن شاء الله ما بيموت”.. في لقاء خالي من الألوان، وبصورة تنقصها الدقة يظهر على “التلفزيون العربي السوري” مرتديًا إزارًا دمشقيًا.
جالسًا في باحة منزله في حي القنوات في دمشق، وبلكنة “شامية” لا تُخطئها الأذن يتحدث عن “الأيام الخوالي” بحماس واضح وكأنها الأمس.
تتجلى أمامه صورة أهالي سوريا المتجمهرين آنذاك بالآلاف للتطوع في القتال ضد الاحتلال الفرنسي، فيصف بدقة كيف تم تجنيد الشبان باللباس العسكري، وكيف قُطبت جروح المصابين على ضوء شموع الكنائس، كيف تضافر الشعب السوري في وجه دبابات العدو الفرنسي مقاتلًا بالحجارة.
فخري البارودي، الذاكرة السورية الزاخمة بالتفاصيل، بأحداث وشخصيات سياسية واجتماعية مهمة في التاريخ السوري، قصص طريفة وأحاديث لا تنتهي، ذاكرة لقرابة الثمانين عامًا تلتف وتلتقي في طيات شخص واحد.
عُرف البارودي بمواقفه السياسية ونضاله في فترتي الحكم العثماني والاحتلال الفرنسي في سوريا، فشارك في معركة ميسلون والتحق بالثورة العربية الكبرى وسُجن ونُفي في فترة الحكم الفرنسي.
ألف الأشعار الوطنية أشهرها “بلاد العرب أوطاني”، وأسس صحيفة “حط بالخرج”، وهي من أولى الصحف الناقدة بأسلوب الفكاهة الساخرة في سوريا، وكتب مقالات الكثيرة الأخرى في جريدة “المقتبس”، والعديد من الكتب الشعر والسياسة والموسيقى.
وتعد مذكراته التي كتبتها على مدار الفترة بين 1887 و1966، من أهم الوثائق التي تحدثت عن تلك الفترة من تاريخ سوريا.
المذكرات التي جُمعت لاحقًا في كتاب (أوراق ومذكرات فخري البارودي) من إعداد دعد الحكيم، تروي الجزئيات الأولى منذ طفولته، وملامح المجتمع الدمشقي العام ومجتمع “الخاصة”، بتفاصيل حياته اليومية وعاداته، كما يتذكره، مرورًا بـ ” الكتاتيب” والمدارس التركية والتبشيرية والأهلية و”مكتب عنبر” لاحقًا.
روى البارودي قصصًا كثيرة بعضها طريف، وبعضها الآخر يتسم بجدية سياسية واضحة، وصف علاقة الأتراك بالسوريين خلال فترة الحكم العثماني في عهد السلطان عبد الحميد، والانقلاب العثماني بعدها والأحداث اللاحقة إلى حين الاحتلال الفرنسي واستقلال سوريا.
يصف الأصدقاء المقربون للبارودي شخصيته المحببة المضيافة دومًا، ودمعته “السخية”، وعفويته المتواضعة التي لا تتعارض أبدًا مع شخصيته القيادية الحازمة.
يتحدث وليد الحلبي أحد الأصدقاء المقربين للبارودي، واصفًا منزله الذي تتكدس فيه “كميات هائلة” من الكتب والتي كان موصىً بالتبرع بها للمكتبة الظاهرية بعد وفاة البارودي.
امتلك البارودي كتبًا نادرة ومخططات عتيقة، وتحف فنية اندثرت تحت الركام الناتج عن سقوط قذيفة فوق منزله، كانت موجهة لمبنى الإذاعة والتلفزيون، كما روي في موقع “التاريخ السوري المعاصر”.
توفي فخري البارودي في دمشق في عام 1966، فخرج في جنازته المئات، ولاحقته طرافته المعهودة إلى جنازته، بموقف طريف حصل لصديقه المقرب حسني تللو، وهو يحاول حمل النعش فتدافعه الناس وتعثر في مشيته وانخلعت فردة حذائه.
فصاح تللو ورمى النعش وسار للخلف بين جموع المتدافعين بحثًا عن حذائه، ” وتصايح الناس، وانقلبت الجنازة إلى جو من المرح لهذا المنظر العجيب” كما يرويها أنس تللو على موقع “التاريخ السوري المعاصر”.