د. أكرم خولاني
تتأثر منطقتنا في مثل هذه الأشهر من كل عام بمنخفضات جوية مترافقة بعواصف ثلجية، وينتج عنها انخفاض شديد بدرجات الحرارة قد تصل إلى ما دون درجة الصفر مئوية.
وأكثر من يتضرر بفعل هذه الأجواء هم النازحون السوريون، فبعضهم يبيت في العراء، وكثيرون منهم يسكنون في الخيام، وحتى من يقيمون في البيوت فإن معظم بيوتهم تفتقد للأثاث الشتوي والمدافئ، إضافة لكون معظمها غير مؤهل بشكل جيد للتعامل مع هذه الظروف القاسية، كل ذلك يؤدي إلى زيادة إصابتهم بأذيات صحية ناجمة عن البرد الشديد، وأشيع تلك الأذيات هي ما يصيب الجلد والأنسجة تحته، وهي ما سنتحدث عنه اليوم.
يحافظ الجسم على درجة حرارته ما بين 37.5 و 36.6 درجة مئوية عن طريق عمل القلب والأوعية الدموية، وينظم ذلك منطقة في الدماغ (الهيبوثالاموس)، فعند تعرض الجسم للبرد يحاول توليد المزيد من الحرارة عن طريق انقباض الأوعية الدموية المحيطية وانقباض وانبساط العضلات المتكرر (رعشة البرد)، وهذا يؤمّن ذهاب الدم إلى الأعضاء الحيوية في الجسم (القلب، الرئتين، الكبد، الكلية، الدماغ)، ولذلك إذا استمر البرد لفترة طويلة (مثل: الطقس البارد، لمس الثلج، لمس السوائل المتجمدة، أو المعادن الشديدة البرودة) فإن المناطق الانتهائية من الجسم (ذروة الأنف، شحمة الأذن، أطراف أصابع اليدين، أصابع القدمين) تتأثر وتتأذى.
ما الأذيات النسيجية الناتجة عن البرد؟
- الشرث (Chilblains): هو أخف أشكال أذيات البرد التي تصيب الجلد، سببها تعرض الجلد للبرد والأجواء العاصفة، وفيها عند بدء تدفئة الأجزاء المصابة يحدث فيها احمرار وألم وحرقان وحكة شديدة قد تدوم طويلًا (ساعتان على الأكثر)، تزول هذه الأعراض بعد تدفئة المنطقة المصابة بشكل جيد، ويمكن استخدام المسكنات والكريمات المرطبة.
- أذية الغمر (Immersion injury) أو ما يسمى القدم الخندقية (Trench foot): تحدث الإصابة نتيجة الغمر الطويل الأمد (أكثر من 10-12 ساعة) وبدرجة حرارة منخفضة (أقل من 10 درجات مئوية)، وفيها يصبح جلد أصابع القدم متقشرًا وقد يصاب بالعدوى، وتتحسن الإصابة بإعادة التدفئة ثم اللف بضماد جاف، وتعالج الإنتانات بالمضادات الحيوية.
- عضة الصقيع (Frostnip): وتسمى أيضًا عضة البرد، أو التثليج، أو لسعة الصقيع، وهي أذية تصيب الجلد والأنسجة الرخوة تحته بسبب تعرضه لدرجة حرارة منخفضة جدًا (تتراوح بين -4 و-2 درجة مئوية)، ولها أربع درجات سنذكرها لاحقًا.
ما المقصود بعضة الصقيع؟
هي الحالة الناجمة عن تلف في أنسجة الجسم نتيجة تعرضها للبرد الشديد، وتبدأ بتجمد الجلد ثم طبقات الأنسجة الموجودة تحت الجلد وفي الحالات الشديدة والقصوى يطال التجمد كذلك العضلات والأعصاب والأوعية الدموية، ولذلك فهي تقسم لأربع درجات، الأولى والثانية (عضة الصقيع السطحية) والثالثة والرابعة (عضة الصقيع العميقة):
- الدرجة الأولى: تؤثر فقط في الطبقة الخارجية من الجلد.
- الدرجة الثانية: تؤثر في البشرة وجزء من الأدمة (الطبقة الثانية من الجلد).
- الدرجة الثالثة: تؤثر في الطبقة الخارجية من الجلد والأدمة والأنسجة الدهنية تحت الأدمة والعضلات.
- الدرجة الرابعة: تؤثر في الجلد والأنسجة التي تقع تحت الجلد بالإضافة إلى العضلات والأوتار العميقة والعظام.
قد لا يحتاج الأمر أكثر من دقائق قليلة فقط لتجمد الجلد عند تعرضه لدرجات حرارة دون حد التجمد، وحتى لو كانت درجات الحرارة لم تصل إلى درجة التجمد، إلا أن تبلل الجلد أو تعرضه لرياح باردة قوية قد يصيبه بعضة الصقيع.
أكثر الاشخاص عرضة لعضة البرد هم الأطفال وكبار السن، إضافة إلى الحالات التالية:
- عدم ارتداء ملابس مناسبة للطقس البارد.
- إرهاق الجسم وتعبه الذي قد يكون ناتجًا عن الجوع أو الجفاف أو النشاط الجسماني أو الإصابات أو شرب الكحول.
- عند وجود ضعف في الدورة الدموية المحيطية، بسبب مرض السكري أو تصلب الشرايين أو تشنج الأوعية الدموية (والذي قد يكون ناجمًا عن التدخين، أو ظاهرة رينو، أو بسبب عقاقير معينة كحاصرات بيتا)، أو نقص تدفق الدم بسبب القفازات أو الأحذية الضيقة جدًا.
ما أعراض عضة الصقيع؟
تكون المرحلة الأولى خفيفة الأثر، وفيها يكون الجلد أحمر اللون ومرنًا وباردًا، وفي بداية الإصابة يشعر المريض بنبض أو ألم في مكان الإصابة، ثم بعد ذلك يفقد الإحساس تمامًا في المنطقة المصابة، وعند تدفئتها يحدث ألم مع شعور بالخدر والوخز.
وفي الدرجة الثانية، يتحول لون الجلد من اللون الأحمر إلى الأبيض الباهت، وقد تبدأ بلورات الثلج بالتشكل تحت الجلد، وفي هذه الحالة قد يكون ملمس الجلد صلبًا في المنطقة المتضررة ويكون مظهره شمعيًا، وقد يلاحظ بعض التوذم، وتعد هذه علامة على بدء حدوث الضرر للنسيج الجلدي، وعند إعادة تدفئة المنطقة المصابة قد تتطور فقاعات مليئة بالسوائل الرائقة أو الحليبية، وقد يبدو الجلد بلون أزرق أو بنفسجي، ويلاحظ إحساس بالحرقة وشعور باللدغ.
وفي الدرجة الثالثة، يبدو الجلد ذا مظهر أزرق أو مبقعًا، مع شعور بالخدر وعدم الإحساس بالبرد والدفء، وقد لا تعمل العضلات القريبة من الإصابة بشكل طبيعي، وقد تحدث فقاعات مليئة بالدم.
أما في المرحلة الرابعة، فيكون الجلد بلون رمادي مزرق مع فقد الإحساس بالبرودة والألم، وعدم الراحة في المنطقة المصابة، ولا تعمل العضلات والمفاصل القريبة، وعند إعادة التدفئة تتشكل فقاعات كبيرة، ثم يتحول الجلد للون الأسود، ويتصلب، ومن ثم تموت هذه الأنسجة، وقد تتشكل “غانغرين” تتطلب بتر العضو.
كيف تُشخّص الإصابة؟
عادة ما يتم تشخيص عضة الصقيع من خلال الأعراض والعلامات، وشكل الجلد، واستعراض الأنشطة الأخيرة التي قام بها المصاب، وهل تعرض للبرودة في أثناء ممارسة هذه الأنشطة. وربما يقوم الطبيب بعمل عدد من الفحوصات، مثل الأشعة السينية، وفحص العظام، والرنين المغناطيسي. ويمكن أن تساعد هذه الفحوصات في تحديد مدى حدة عضة الصقيع، ويستطيع الطبيب من خلالها تحديد تلف العضلات أو العظام.
كيف تعالج عضة الصقيع؟
أفضل علاج لكل درجات عضة الصقيع هو التدفئة السريعة، وتشمل تدفئة المصاب لأنه قد يكون لديه انخفاض بحرارة الجسم أيضًا، وتدفئة المنطقة المصابة بحمام مائي بدرجة حرارة 40– 42 درجة مئوية ولمدة 15– 30 دقيقة، مع إعطاء المسكنات، ويكفي علاج عضة الصقيع السطحية خارج المشفى، أما عضة الصقيع العميقة فتحتاج لمتابعة العلاج في المشفى.
العلاج خارج المشفى:
ينبغي تغطية المصاب ببطانية دافئة، وأن تبدأ التدفئة في المنطقة المصابة بعضة الصقيع فورًا بغمرها بالمياه الدافئة، مع الانتباه لعدم فرك المنطقة لأن ذلك يؤدي إلى زيادة ضرر الأنسجة، وبما أن المنطقة لا يوجد فيها إحساس، لا يستطيع المرضى معرفة ما إذا كان يحدث حرق، ولذلك لا ينبغي أن تُدفأ المنطقة أمام النار أو بوسادة تسخين أو بطانية كهربائية تجنبًا لإحداث حروق بالأنسجة. وتعد عودة تجمد الأنسجة بعد ذوبان تجمدها أكثر ضررًا من السماح بأن تبقى مجمدة، ولذلك إذا كان على المصاب أن يُعاد تعرضه لظروف التجمد، لا سيما إذا كان يجب على المصاب السير على القدمين المصابين بعضة الصقيع، فلا ينبغي إذابة تجمد هذه الأنسجة، وبعد إذابة تجمد الأنسجة يتم تنظيف القدمين وتجفيفهما وتغطيتهما، ويتم إعطاء مسكن إن أمكن، ويجب نقل المصاب إلى المشفى في أقرب وقت.
العلاج في المشفى:
تبدأ التدفئة أو تستمر، وخلال إعادة التدفئة يجري تشجيع المرضى على تحريك الجزء المصاب بلطف، وعادة ما تصبح المنطقة المتعرضة لعضة الصقيع مؤلمة للغاية حينما تجري تدفئتها، لذلك قد يكون من الضروري حقن مسكن أفيوني، ولا ينبغي تمزيق الفقاعات، وإذا تمزقت ينبغي أن تغطّى بمرهم مضاد حيوي.
عندما تجري تدفئة الأنسجة المصابة ينبغي غسل المنطقة بلطف، وتجفيفها، ولفها بضمادات معقمة مع الفصل بين الأصابع، وإبقاؤها نظيفة تمامًا وجافة للوقاية من العدوى، ولمزيد من الوقاية من العدوى يتم إعطاء المضادات الحيوية لجميع المصابين بعضة الصقيع العميقة، ويعطى لقاح الكزاز، كما يلجأ بعض الأطباء أيضًا إلى استخدام الأدوية التي تعطى في الوريد أو الشريان لتحسين الدورة الدموية إلى المنطقة المصابة، على الرغم من أن هذه الأشكال من العلاج مفيدة في الأيام القليلة الأولى فقط بعد الإِصابة.
العلاج بعد الخروج من المشفى:
يكون المرضى بحاجة إلى تناول الطعام الصحي لضمان أن الجسم ينتج ما يكفي من الحرارة، وتعد الحمامات الدوامة بالماء الدافئ (37 درجة مئوية) ثلاث مرات يوميًا، وتعني دوران الماء الدافئ، ما ينقص الزمن اللازم للتدفئة مع مراقبة الماء بدقة حيث يضاف الماء الدافئ عندما يبرد الماء، يليها التجفيف اللطيف، والراحة، وهي أفضل المعالجات الحالية.
يتحسن معظم المرضى ببطء على مدى عدة أشهر، ولكن يصاب بعضهم بالخدر أو فرط الحساسية للبرد بعد الشفاء من عضة الصقيع.
وعلى الرغم من أن البتر في بعض الأحيان يكون ضروريًا لإزالة الأنسجة الميتة، وبما أن عضة الصقيع قد تبدو أنها تؤثر في مساحة أكبر وتكون أكثر شدة مما هي عليه بعد أسابيع أو أشهر، لذلك فإن قرار البتر يجري تأجيله عدة أشهر عادة حتى تعطى المنطقة الوقت الكافي للشفاء، وتساعد اختبارات التصوير أحيانًا، على تحديد المناطق التي قد تتعافى والتي لن تتعافى، والمناطق التي لن تتعافى تتطلب البتر.
كيف يمكن الوقاية من الإصابة بعضة الصقيع؟
- يجب تجنب قضاء فترات طويلة من الوقت في الجو البارد، بالإضافة إلى تجنب التماس المباشر مع السطوح المعدنية والمياه في أثناء البقاء خارجًا في البرد.
- يجب ارتداء لباس مناسب للجو البارد، ويفضل أن يكون مانعًا للماء والهواء مع السماح للجسم بالتنفس، ويجب تغطية الرأس والرقبة ولبس القفازات والجوارب الصوفية مع الحفاظ عليها جافة، فإن تبللت يجب المسارعة إلى تغييرها.
- يجب عدم التوقف عن الحركة لإبقاء الدورة الدموية في حركة مستمرة، وفي حال التعرض لانخفاض درجة الحرارة والرجفة وتقطع الكلام والشعور بالارتباك يجب تدفئة الجسم فورًا.
- وينصح بتناول وجبات عالية الطاقة مثل المكسرات والزبيب والفواكه المجففة لأنها تنتج طاقة سريعة.
- وينصح بتناول الماء الدافئ الكافي لمنع الجفاف.
- ويجب تجنب التدخين والكحول (هناك خطأ شائع بأن تناول الكحول يبعث الدفء، والحقيقة أنه يفقد الدم طبيعته في الاحتفاظ بالحرارة) والأدوية المهدئة (لأنها تعطل رجفان الجسم).