عض الأصابع في إدلب.. من سيخسر أخيرًا؟
أسامة آغي
اشتداد الهجمات الوحشية على محافظة إدلب، وفي غربي حلب، ضد السكان المدنيين والفصائل المسلحة، يعتبر تكثيفًا لجوهر الصراع بين قوى الثورة السورية من جهة، والنظام السوري وحليفيه الروسي والإيراني من جهة أخرى. وقد أخذ هذا التكثيف شكل رسائل نارية، تمثلت بهجوم الفصائل على منطقة جمعية الزهراء وعلى بعض المناطق الأخرى في أطراف مدينة حلب. هذه الهجمات كشفت هشاشة الوضع العسكري والأمني للنظام وحليفيه في هذه المنطقة، حيث تمكنت فصائل المعارضة المدعومة من تركيا من اختراق دفاعات النظام بسرعة شديدة.
هجمات فصائل المعارضة المسلحة تزامنت مع حرب يشنها النظام مدعومًا بحليفيه الروسي والإيراني في إدلب، هذه الحرب غايتها الرئيسة السيطرة على هذه المحافظة قبل سريان مفعول قانون “سيزر” الأمريكي. ولكن من جهة أخرى تعتبر الحرب على إدلب محاولة روسية قصوى لفرض رؤيتها السياسية على الطرف الضامن التركي، الذي يدرك خطر خسارته لإدلب على دوره ونفوذه في الملف السوري المعقّد.
هجمات فصائل المعارضة كانت غايتها إفهام الروس، أن ملف إدلب لا يمكن الالتفاف على الدور الضامن لتركيا فيه، وهذا يترجم بلغة السياسة، أن ليس باستطاعة الروس اللعب بالقوة النارية المكشوفة إلى المدى الذي يعتقدون أنهم قادرون على المضي به، وقد ظهر ذلك في حلب وحميميم وإدلب.
ولهذا يبدو حشد تركيا العسكري الهائل في محافظة إدلب، وفي غربي وجنوبي حلب، إعلانًا صريحًا على فرض توازن عسكري على الأرض، لا يسمح للنظام وحليفيه بتحقيق قضم إدلب، ولعلّ الحواجز التركية في محيط سراقب، واستعادة السيطرة على الطريق “M4” في النيرب، والاشتباكات بين الجيش التركي وقوات النظام التي تقصّدت قصف نقاط الحواجز التركية، دلائل ملموسة على هذا الأمر.
الروس لم يتيقنوا بعد من مستوى التنسيق المحتمل بين الولايات المتحدة وتركيا بملف إدلب، ولكنهم متيقنون بأن فعالية “سيزر” باتت سيفًا على رقبة طموحاتهم في هذا البلد. ولعلّ محاولة النظام احتلال إدلب بمساعدة وحشية الطيران الروسي، الذي دمّر مدينة معرة النعمان وغيرها من المناطق، هي محاولة كسب الوقت الفاصل بين إقرار قانون “سيزر” وتنفيذه على أرض الواقع.
الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا أعلنت كل منهما رفضها للحرب، التي يشنها النظام السوري وحليفيه الروسي والإيراني على إدلب. وقد قالت مورغان أورتاغوس، المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية، إن بلادها تقف إلى جانب تركيا الحليفة في “الناتو”، و”تدعم حقها المشروع في الدفاع عن النفس”، في وقت قال وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط، أندرو موريسون، في تغريدة له على “تويتر”، “أدين هجمات نظام الأسد في إدلب والخسائر غير المقبولة في أرواح المدنيين السوريين والجنود الأتراك”.
ولكن تركيا هي الأخرى تدرك قيمة الصبر والتحدي، بما يتعلق بملف إدلب، وتمتلك قدرة المناورة العسكرية والسياسية بصورة جيدة، فهي جارة سوريا بحدود تصل إلى أكثر من تسعمئة كيلومتر، ولديها القدرة على تزويد فصائل المعارضة بما يمنع الروس من تنفيذ طموحهم، وهذا يعني تواجهًا وتقابلًا عسكريًا وسياسيًا بين قوتين، النظام وحليفيه، وفصائل المعارضة وحليفتها تركيا، وأن الموقف الأمريكي المندد بعمليات روسيا والنظام في إدلب تريد تركيا استجلاء مداه في الاصطفاف الحقيقي، كما تريد روسيا سبره.
تركيا التي تمارس سياسة فرض التوازن العسكري والسياسي على النظام ومن خلفه الروس، من خلال حشدها العسكري في إدلب، لا تريد مواجهة عسكرية مع روسيا، وهذا الأمر لا تريده روسيا أيضًا. فالروس لن يضمنوا كسبًا عسكريًا في إدلب، إذا ما قررت الولايات المتحدة الانحياز العلني لفصائل المعارضة، ولعل توجسها في هذا الشأن، ينبع من اجتماع الأمريكيين مع هذه الفصائل منذ فترة قريبة في تركيا.
لهذا اضطر الروس إلى المبالغة في استخدام أكبر قدرٍ من القوة النارية لتحقيق أقصى نتائج ممكنة لمصلحتهم في إدلب، ولكن التدخل التركي لمنع النظام من احتلال محافظة إدلب وطرد سكانها، غايته الرئيسة منع حلول كارثة لجوء جديدة لا تستطيع الدولة التركية تحمل نتائجها، وكذلك منع الروس من عنادهم في محاولة إعادة تأهيل النظام.
الروس الذين هالهم حجم الحشد العسكري التركي في إدلب، فهموا جيدًا أن الرد التركي الساحق على قصف النظام لجيشهم، قد يقود إلى مواجهة عسكرية، ليسوا مضطرين إلى الانخراط في متاهاتها في ظل عدم يقينهم بالموقف الأمريكي المتوقع من ذلك.
إذًا نستطيع القول، إن الروس أمام مفترق طرق حقيقي في مسألة إدارة الصراع في إدلب، وهذا يعني مجازفة حقيقية بكل نتائج التقارب بينهم وبين الأتراك، مقابل وهم حسم ملف إدلب عسكريًا، الذي صرح الأمريكيون منذ أيام في اجتماعات لندن وبروكسل أن هذا الحسم لا يمكن تحقيقه على الأرض.
لهذا من المتوقع عودة نشاط الدبلوماسية الروسية، المقرونة بالضغوط والتهديدات والشروط، ولكنها في الحقيقة ستكون دبلوماسية رفع الحرج، عما أصاب مخططهم من ضعف واضح، وقد ظهر هذا النشاط من خلال الحديث الهاتفي، الذي جرى بين الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين.
الرئيس التركي أبلغ نظيره الروسي، أن تركيا لن تتهاون بشأن قصف النظام لقواتها، وأنها جادة في سحق هذه القوات، إذا ما قامت بأي عمل عدواني جديد ضد الجيش التركي الضامن لمنطقة خفض التصعيد الرابعة، بموجب مفاوضات “أستانة” و”سوتشي”.
هذا الحديث بين الرئيسين أردوغان وبوتين، من شأنه استدراج تفاهمات جديدة بين البلدين، تجنبهما خوض صراع عسكري لا أحد يقدر على معرفة نهاياته، هذه التفاهمات على المستوى الروسي تعني تركيًا إعادة روسيا إنتاج رؤيتها السابقة للصراع بين الشعب السوري والنظام الاستبدادي الحاكم، بما يسمح بتفعيل الحل السياسي، والتعاون بين البلدين بصورة مختلفة في هذا الملف.
عدم جنوح روسيا إلى التفاهم مع الأتراك، وتهديدهم للمصالح التركية، وفي المقدمة الأمن القومي للدولة التركية، الذي سيتهدد بموجات لجوء لأكثر من ثلاثة ملايين سوري، يعني في المحصلة الأخيرة خسارة روسيا كثيرًا من مصالحها واستثمارها في ملف الصراع السوري.
ولهذا من المتوقع طفو لغة إعلام عالية النبرة، واستعداد جديد للبحث عن تقاطعات ممكنة، دون الوصول للحرب، وهذا ما عبّر عنه الرئيس التركي حين قال “إن تركيا لا تريد مواجهة عسكرية مع الروس في سوريا”.
بقي أن نقول أن الزمن يعمل لمصلحة تركيا والفصائل المعارضة، مع اقتراب تنفيذ مواد قانون “سيزر” الأمريكي، الذي يفصلنا عن تفعيله بضعة أسابيع ترعب النظام السوري وحلفاءه، فهل تصبر تركيا على تمرير هذه الأسابيع، أم أن لديها رؤية أخرى؟
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :