فيروس “كورونا” السوري

  • 2020/02/09
  • 12:00 ص

إبراهيم العلوش

توفي يوم الخميس الماضي الطبيب الصيني لي وينليانغ، الذي أعلن قبل شهرين عن وجود إصابات غامضة في مستشفى ووهان الذي يعمل فيه كطبيب عيون، وداهمت الشرطة الصينية منزله، وعلى طريقة المخابرات السورية، أجبرته على توقيع تعهد بعدم نشر إشاعات المرض التي “توهن نفسية الأمة” وتضرّ بسمعتها وباقتصادها، لكنه أصرّ على نشر أخبار المرض في مدينته التي بلغ تعداد المصابين فيها عشرات الآلاف ووفياتها المئات، وأصبح بنظر الصينيين بطلًا قوميًا ضد سياسة التكتم والاستبداد.

في هذه الأثناء التي امتدت من بداية الشهر الأخير من العام الماضي حتى وفاة الطبيب الصيني، أصدر بشار الأسد مراسيم تمنع الحديث عن انخفاض قيمة الليرة السورية، وتهدد بسجن من يروج هذه الأنباء إلى مدة تصل إلى سبع سنوات، رغم أن معظم وكالات الأنباء تتداول هذه الأسعار وتصدّق عليها أخبار الغلاء الفاحش.

وفي نفس الوقت تناوبت الطائرات الروسية وبراميل النظام ومدفعيته على تهجير قرابة نصف مليون مواطن سوري بحجة أنهم إرهابيون ويجب أن يُخلوا مدنهم وقراهم، وأن يهاجروا باتجاه الحدود التركية للضغط على أوروبا التي ترفض التفاوض مع الروس، وتستهين بجهودهم في تدمير سوريا، وطبعًا لا يستطيع أي من المسؤولين السوريين، ولا من الناس الذين اضطرتهم الظروف للبقاء في ظل النظام، أن يقولوا كلمة بحق الأطفال والشيوخ والبشر الذين يتم تهجيرهم في البراري وفي جو قارس البرودة، ولا يحق لأي من كتاب ومثقفي وصحفيي محور (الممانعة) أن يعتبر هؤلاء النصف مليون من عداد البشر، ويستحقون الشفقة على الأقل، ناهيك عن حقوقهم الإنسانية التي ينص عليها دستور الأسد الذي كتبه بيديه.

الطبيب الصيني أصيب بفيروس “كورونا” مع والديه لأنه نقل إليهما العدوى لعدم معرفته بحقيقة المرض الجديد الذي يجتاح الصين، وصار الفيروس يهدد بشل اقتصادها إن استمر انتشاره خلال الأشهر القليلة المقبلة، فالمستوردات الصينية صارت محل شبهة لاحتمال نقلها الفيروس، وصارت الصحف تنشر كاريكاتيرات تبين كيفية فتح البضاعة الصينية والاحتياطات الواجب اتخاذها من أجل فتح طرد فيه ثياب رخيصة، أو مسامير، أو حتى حاويات كبيرة من بضائعها التي تغزو العالم!

في ثمانينيات القرن الماضي توسط الشيخ البوطي وتوسل في خطبته أمام حافظ الأسد للإفراج عن المعتقلين و”مسامحة المخطئين” الذين استنكروا الفساد والاستبداد، ولكن حافظ الأسد ردّ بجملة شهيرة لا تزال تعمل بها أجهزة النظام إلى اليوم، وهي “ليس لدينا معتقلون.. بل مجرمون!” وصارت هذه القاعدة أساسية في فقه التعذيب حتى الموت، ولا يزال بشار الأسد يعمل بها هو وأجهزته التي ورثها عن أبيه، بطل مجازر حماة وحلب وجسر الشغور التي مرّ عليها حتى اليوم قرابة أربعين سنة!

الطبيب الصيني لي وينليانغ الذي صار رمزًا للشجاعة، نبه السلطات الصينية عندما كان عدد الإصابات سبعًا فقط، وطالب بالحذر من هذا المرض الغامض، ولو استجابت السلطات الطبية له لما تسببت بانتشار الفيروس في الصين بهذا الشكل الوبائي كالطاعون أو الحمى الإسبانية أو غيرها.

ولكن السلطات الصينية ردت على التحذير الطبي بدورية مخابرات أجبرته على كتابة تعهد بالامتناع عن الكلام، والسكوت عن الحقيقة، وكان الطبيب قد نشر التعهد الذي أُجبر على توقيعه قبل موته بعدة أيام!

وفي بداية الثورة السورية طالب الناس النظام بقليل من الإصلاحات وبتعديل نظرة الأجهزة الحاكمة إلى البشر، وعدم اعتبارهم مجرد حقول لاستثمارات عائلته ومخابراته، ولكنه كان مصرًا على اتباع أساليب أبيه التي استعملها في الثمانينيات لهزيمة الشعب السوري وإركاعه أمام فروع المخابرات، ما ساق سوريا لتنتهي إلى احتلالات متعددة بعد تدميرها ونهبها بأيدي الشبيحة وفتحها أمام عصابات التطرف الديني.

بشار الأسد كان متأكدًا من سيطرته على السوريين وحتمية استسلامهم له مثلما استسلموا لأبيه قبل عشرات السنين، والسلطات الصينية أيضًا كانت منتشية بإنجازاتها غير المسبوقة في الصناعة والبناء والتكنولوجيا وصولًا إلى بنائها لأكبر سجن في العالم، يضم مليون سجين من المسلمين الإيغور، واستعمالها أحدث التقنيات في غسيل الأدمغة، ما يجعل “داعش” وأساليبها في غسيل الأدمغة مجرد عصابة من الهواة والمرتزقة العابرين!

سياسة الإنكار جوهر الأنظمة الاستبدادية، فالنظام الإيراني تكتم على تفجير الطائرة الأوكرانية، ولكن الظروف لم تخدمه مثلما خدمته سياسات الدول بإنكار الإسهام بتدمير سوريا وتهجير شعبها. والروس تكتموا سابقًا على انفجار تشرنوبل النووي، واليوم ينكرون أنهم يقصفون المستشفيات والمدارس، ويهجّرون المدنيين في إدلب، ويتملصون من قول الحقيقة التي أثبتتها الوقائع على الأرض إضافة إلى أدلة منظمات حقوق الإنسان العالمية وصور وكالات الأنباء التي تقلع عيون المتعامين عنها!

منذ الثمانينيات ضحى الشبان الشجعان بحرياتهم وبحياتهم من أجل قول الحقيقة وتجنيب البلاد الكوارث التي كان حافظ الأسد ونظامه يسوقون السوريين إليها، ولكن أجهزة نظام الأسد كانت تنكر كل الحقائق وتحاول نشر الألوان والأحلام الوردية التي يبشر بها نظام المخابرات، ورغم أن الأمور كان من الممكن تطويقها ومنعها من الانزلاق الكارثي بقليل من الحوار، وبقليل من الاعتراف بالحقائق، إلا أن النظام كان مصرًا على الإنكار، وجرّ سوريا والسوريين جميعًا إلى كارثة وبائية تتمثل بواقع سوريا المنهارة والمحتلة اليوم من قبل عدة دول وتنظيمات وميليشيات إرهابية.

سوريا اليوم مصابة بفيروس الأسد الذي تزيد خطورته على السوريين، وعلى استقرار العالم، أكثر بمرات عديدة من فيروس “كورونا” الذي لا يزال يفتك بالمئات، بينما فيروس “كورونا” السوري يفتك بمئات الآلاف من السوريين، ويضحّي بحياتهم، وببلادهم، وبرفاهيتم التي صارت حلمًا بعيد المنال!

مقالات متعلقة

مقالات الرأي

المزيد من مقالات الرأي