اتفاقيات جنيف الأربع.. حين تصنع المعارك قوانين السلام
في 24 من حزيران لعام 1859 حصلت “معركة سولفرينو” في إيطاليا، بين الجيشين النمساوي والفرنسي، حينها غصت المدينة بالمصابين، اتضح بعد ذلك أن الخدمات الطبية العسكرية غير كافية لإسعاف الضحايا والجرحى، فنتج عنها أربعة آلاف قتيل عسكري، وعشرات الآلاف من المفقودين.
في تلك الأثناء كان التاجر السويسري هنري دونان، يتجول في منطقة المعركة خلال رحلته التجارية، فوثق الواقعة بتفاصيلها في كتابه “تذكار سولفرينو“.
وشكل هذا الكتاب بداية الجهود الدولية لتشكيل مجموعات مدنية وطبية، وفق ما اقترحه دونان في جولته حول العواصم الأوروبية، لتضمن رعاية المقاتلين الجرحى في أوقات النزاعات المسلحة.
وتأسس “الصليب الأحمر” الدولي وقتها بوصفه منظمة إنسانية محايدة، في 13 من شباط لعام 1863، على يد السويسري هنري دونان، لتصبح مسؤولة عن جمع ونقل بيانات أسرى وضحايا الحرب.
في تشرين الأول من عام 1863 سافر مندوبون من 16 دولة، بالإضافة لأفراد عسكريين وطبيين إلى مدينة جنيف السويسرية، لمناقشة شروط اتفاق إنساني لتنظيم بعض النقاط أثناء الحروب والنزاعات العسكرية.
بعدها بعام وقع على هذا الاتفاق 12 دولة أوروبية، وعُرف بـ”اتفاقية جنيف”.
تحمي الاتفاقية على وجه التحديد الأشخاص الذين لا يشاركون في الأعمال العدائية (المدنيون، متطوعي المجموعات الطبية، ومنظمات الإغاثة الإنسانية).
مأساة أفقدت الاتفاقية فاعليتها
رتبت الحكومة السويسرية في عام 1906 مؤتمرًا مؤلفًا من 35 دولة لمراجعة وتحديث بنود “اتفاقية جنيف”، إذ مددت حمايتها لتشمل الأشخاص الذين توقفوا عن المشاركة في الأعمال العدائية من قبيل الجرحى، والمرضى، والجنود الناجين من السفن الغارقة، وأسرى الحرب، وأن جميعهم يجب أن يتعاملوا معاملة إنسانية.
مثلت هذه الاتفاقية النسخة المنقحة لاتفاقية جنيف بشأن ضحايا الحرب، وحلت بدلًا من اتفاقية جنيف لعام 1864.
وبعد الحرب العالمية الأولى (28 من تموز لعام 1914- 11 من تشرين الثاني لعام 1918) التي نتج عنها مقتل أكثر من عشرة ملايين شخص، تبين عدم كفاية تعديلات اتفاقية جنيف 1906، وتلتها “اتفاقية جنيف” عام 1929 وتضم 64 مادة.
شملت هذه الاتفاقية حماية المراكز الدينية والوحدات الطبية ووسائل النقل الطبي.
اتفاقية جنيف الأولى
لم تمتنع ألمانيا الموقعة على “اتفاقية جنيف” لعام 1929، من بدء حرب عالمية ثانية، والتي مارس جنودها في ذلك الوقت “أعمالًا عسكرية ضد الإنسانية” خارج ميدان المعارك وفي معسكرات الاعتقال.
وتم تطوير “اتفاقية جنيف” عام 1949، وتصبح فيما بعد معروفة بـ”اتفاقية جنيف الأولى”، لتنطبق أحكامها في حالة الحرب المعلنة أو أي اشتباك مسلح آخر ينشب بين طرفين أو أكثر من الأطراف المتعاقدة، حتى لو لم يعترف أحدها بحالة الحرب.
وتنطبق الاتفاقية أيضًا في جميع حالات الاحتلال الجزئي أو الكلي لإقليم أحد الأطراف المتعاقدة، حتى لو لم يواجه هذا الاحتلال مقاومة مسلحة.
وكما أضافت الاتفاقية المدنيين الذين يحملون السلاح في مواجهة القوات الغازية ضمن حمايتها.
وتنص (المادة 9) من “اتفاقية جنيف الأولى”، على أن للـ”صليب الأحمر” الحق في مساعدة الجرحى والمرضى جراء الحروب، وتقديم المساعدات الإنسانية لهم.
وبموجب الاتفاقية أيضًا، أصبحت السفن الطبية الناقلة للجرحى، تحت حماية الاتفاقية، من خلال القاعدتين القانونيتين:
- لا يجوز على أي طرف من أطراف الصراع المتعاقدة استخدام السفن الطبية لأغراض عسكرية.
- يجب على قوات الأطراف المتنازعة إنقاذ أي شخص غارق وسط البحر حتى وإن كان جندي من القوة العسكرية المقابلة.
اتفاقية جنيف الثانية
تتألف الاتفاقية من 63 مادة، التي وقعت في 12 من آب لعام 1949، وطورت من قبل دول الأعضاء لتحسين حماية الجرحى من الضباط في السفن العسكرية البحرية، وأهم الأحكام الأساسية للمعاهدة هي:
- المواد 12 و18 تطلب من جميع الأطراف حماية ورعاية الجرحى والغرقى من القوات المسلحة البحرية.
- تسمح المادة 21 للسفن المحايدة المساعدة في جمع ورعاية الجرحى والمرضى والغرقى، ولا يمكن القبض على السفن المحايدة، بموجب هذه المادة.
- المواد 36 و37 تحمي رجال الدين والأطباء على متن سفينة عسكرية.
اتفاقية جنيف الثالثة
برزت في “الاتفاقية الثالثة لجنيف“، آلية معاملة أسرى الحرب، وتنقسم هذه الاتفاقية إلى عدة أقسام، أبرزها:
- يغطي القسم الأول بداية الأسر، من المواد 17 إلى 20، وهي تحدد المعلومات المسموح للسجين أن يقدمها، وطريقة التحقيق التي يجب على سلطة الاحتجاز تقديمها، “لا يجوز التعذيب الجسدي أو النفسي، ولا أي شكل من أشكال الإكراه على تقديم المعلومات”.
وهي تحدد أيضًا الممتلكات الخاصة التي يمكن للمحتجز أن يحتفظ بها، ويجب وفقًا لتلك المواد إجلاء أسير الحرب من منطقة القتال بأقرب فرصة ممكنة لتحقيق ذلك.
- سلط القسم الثاني الضوء على مواضيع إنسانية مختلفة السياقات، فالمواد من 25 إلى 28 اهتمت بالأحكام التي تنظم المأوى والغذاء والملبس الخاص بأسرى الحرب، أما المواد من 29 إلى 32 نظمت الشروط الصحية وآلية العناية الصحية المفترض تقديمها لأسرى الحرب.
كما تحدد باقي مواد الاتفاقية نوع العمل الذي قد يجبر أسير الحرب على القيام به، مع الأخذ بعين الاعتبار عوامل مثل الرتبة العسكرية وعمر وجنس الأسير، وذلك بسبب أن العمل في الاسر غير صحي أو خطير، ولا يمكن القيام به إلا من قبل أسرى الحرب الذين يتطوعون لمثل هذا العمل.
اتفاقية جنيف الرابعة
“اتفاقية جنيف لحماية المدنيين وقت الحرب”، أو كما تعرف اختصارًا بـ”اتفاقية جنيف الرابعة”، وقعت في ذات اليوم الذي وقع فيه اتفاقيات جنيف الثلاث الأولى.
في عام 1993، اعتمد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة تقريرًا من الأمين العام ولجنة خبراء، جاء في التقرير أن اتفاقيات جنيف قد دخلت حيز القانون الدولي العرفي، مما جعلها ملزمة لغير الموقعين على الاتفاقيات الأربعة.
المادة 3 المشتركة
تشترك الاتفاقيات الأربعة لجنيف بمادة معينة، وهي المادة رقم 3، إذ شملت لأول مرة حالات النزاعات المسلحة غير الدولية.
وتضم هذه النزاعات الحروب الأهلية، والنزاعات المسلحة الداخلية، التي تتسرب إلى دول أخرى أو النزاعات الداخلية تتدخل فيها دول ثالثة أو قوات متعددة الجنسيات إلى جانب الحكومة.
وتنص المادة 3 المشتركة على القواعد الأساسية التي لا يجوز استثناء أي من أحكامها، وفق الاتفاقيات، إذ يمكن اعتبارها كاتفاقية مصغرة ضمن الاتفاقيات تضم القواعد الأساسية للاتفاقيات الأربعة في صيغة مكثفة، وتطبق على النزاعات غير الدولية.
وتلزم المادة بمعاملة إنسانية لجميع الأشخاص المعتقلين عند العدو وعدم التمييز ضدهم أو تعريضهم للأذى وتحرم على وجه التحديد القتل، والتشويه، والتعذيب، والمعاملة القاسية والمهينة، والمحاكمة غير العادلة.
وتقضي المادة بتجميع الجرحى والمرضى والناجين من السفن الغارقة وتوفير العناية لهم، وتمنح اللجنة الدولية للـ”صليب الأحمر” الحق في توفير خدماتها لأطراف النزاع.
وتدعو المادة المشتركة أطراف النزاع إلى وضع جميع اتفاقيات جنيف أو بعضها حيز التنفيذ من خلال ما يسمى “الاتفاقات الخاصة“.
وبما أن معظم النزاعات المسلحة في الوقت الراهن نزاعات غير دولية، فإن تطبيق المادة 3 المشتركة أمر في غاية الأهمية، ويقتضي احترامها بالكامل، بحسب موقع “الصليب الأحمر الدولي“.
دخول الاتفاقيات حيز التنفيذ
دخلت اتفاقيات جنيف الأربعة حيز التنفيذ في 21 من تشرين الأول لعام 1950، واستمر التصديق عليها طوال عقود القرن الماضي.
وصادقت 74 دولة على الاتفاقيات في الخمسينيات، و48 دولة في الستينيات، و20 دولة وقعت الاتفاقيات في السبعينيات، و20 دولة أخرى في الثمانينيات.
وفي التسعينيات، صادقت 26 دولة على الاتفاقيات، أغلبها في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي، وتشكوسلوفاكيا، ويوغوسلافيا السابقة.
وبعد سبعة تصديقات جديدة منذ عام 2000، وصل عدد الدول الأعضاء إلى 194، لتكون بذلك اتفاقيات جنيف أكثر الاتفاقيات الواجبة التطبيق في العالم.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :