منصور العمري
أواخر عام 2010، بدأت شعوب المنطقة العربية بالانتفاض بعد عقود من الاستغلال والنهب على أيدي حكامها، ولا تزال تتظاهر حتى اليوم وتقتلها حكوماتها في الشوارع لمطالبتها بالكرامة والحقوق. رغم ذلك تتجاهل دول “العالم المتحضر” مسؤوليتها المشتركة في التسبب بهذه الثورات وما أدت إليه من مجازر وتهجير ولجوء وجرائم كبرى. لا تزال هذه الدول تمارس ذات السياسات التي أفقرت شعوب المنطقة.
العامل الاقتصادي أحد أهم الدوافع وراء هذه الثورات والحراك الشعبي، ويتجلى ذلك في مطالب الناس بالعدالة الاقتصادية وإنهاء الفساد.
طبعًا المسؤول بالدرجة الأولى عن إفقار هذه المنطقة وقتل شعوبها ونهبهم هم حكامها ومن يؤيدهم من هذه الشعوب، لكن هناك عوامل أخرى تسهم في دعم بقاء هذه الأنظمة ونهب الشعوب، من بينها سياسات دول “العالم المتحضر” تجاه الدول العربية ودول فقيرة أخرى في العالم. على دول “العالم المتحضر” معالجة القوانين التي تسمح للنخب الفاسدة بنهب شعوبها.
من هذه السياسات التي تسهم بشكل كبير في إفقار الشعوب:
– سياسة الصدر المفتوح أمام أموال ناهبي الشعوب في بنوك هذه الدول واستثماراتها وعقاراتها.
– التواطؤ المباشر أو غير المباشر في استغلال القوى العاملة لهذه الشعوب أو ما يدعونه الأيدي العاملة الرخيصة، بالإضافة إلى عمالة الأطفال، والعمل القسري أو العبودية الحديثة.
– عقد الصفقات التجارية الكبرى الفاسدة أو السياسية مع حكومات الدول الفقيرة.
سويسرا من أكبر الأمثلة على استخدام سارقي الشعوب بنوك دول “العالم المتحضر” التي تُعتبر ملاذًا لأموال ناهبي الشعوب. يسرق الحاكم أموال شعبه ويودعها في هذه البنوك، بحيث تستفيد منها بنوك سويسرا ويحرم منها صاحبها الأصلي. فمثلًا حتى اليوم لا تزال سويسرا تجمد أموال التونسيين التي سرقها نظام ابن علي. تجميد الأموال لا يعني عدم الاستفادة منها بالنسبة لسويسرا، كما أنها لا تتعاون مع تونس لإعادة أموال التونسيين إليهم. بالإضافة إلى تقارير عن مليارات الدولارات لبشار الأسد وأخيه ماهر وغيرهما من ناهبي الشعب السوري موجودة في بنوك سويسرا التي يستثمرون فيها. كما أن ليبيا لم تنجح حتى اليوم باستعادة الأموال التي نهبها القذافي ونظامه ووضعها في أملاك وبنوك العالم ومن بينها سويسرا، والتي تقدر بـ350 مليار دولار.
مثال آخر على دور سويسرا في إفقار الشعوب، ورد في تقرير “المضرب الذهبي” لعام 2015، الذي كشف أن سويسرا تستورد الذهب من دولة توغو في إفريقيا التي لا تنتج الذهب، وفصّل التقرير كيف يصل الذهب المهرب من دولة بوركينافاسو إلى توغو وتسهم شركة لبنانية في تصديره إلى سويسرا. ترتب على هذه العملية، بحسب التقرير، خسارة لبوركينافاسو عام 2014 تقدر بنحو سبعة ملايين دولار، وتساوي ربع التبرعات التي تقدمها سويسرا لبوركينافاسو، أي بتعبير أبسط، سويسرا تشارك في سرقة بوركينافاسو ثم تقدم لها ما تدعوه تبرعات من أموالها المسروقة. بالإضافة إلى الخسارة المالية، ينطوي إنتاج الذهب في بوركينافاسو على عمالة الأطفال وظروف العمل غير المناسبة، وبذلك تكون سويسرا ضالعة في عمالة الأطفال وحرمانهم من التعليم بما ينعكس على مستقبل الدولة والمجتمع بأكمله.
أما العاصمة البريطانية لندن فلها حكاية أخرى، إذ يُعتبر سوق العقارات فيها وجهة رئيسة لغسيل أموال المخدرات وسارقي الشعوب، ومن بينهم بشار الأسد ورجاله. قانون العقارات البريطاني يفسح المجال أمام هذه الممارسات القائمة منذ عشرات السنين، دون إجراءات حقيقية من الحكومة البريطانية، وهو ما ينعكس أولًا على مواطني بريطانيا وقدرتهم على السكن وشراء المنازل في لندن، لكن كم الأموال التي تدخل السوق البريطاني كبير جدًا.
حالة رفعت الأسد هي نموذج مثالي للتعاطي المستهتر لأنظمة الدول الأوروبية مع ناهبي الشعوب. بعد أن اختلف رفعت وأخوه حافظ الأسد في سوريا، اتفق الأخير مع رفعت على ثمن خروجه من منافسته في حكم سوريا، وهو أموال خزينة الدولة. بدأ رفعت بشراء العقارات وإيداع الأموال في بنوك دول أوروبا، من بينها فرنسا وإسبانيا وبريطانيا، دون أي مساءلة لأكثر من 30 عامًا، إلى أن تحركت بعض الدول لمساءلته عن مصدر أمواله وصادرت بعضها، أي صادرت أموال السوريين دون توضيح إن كانت هذه الأموال ستعاد للسوريين بشكل أو بآخر أو أنها ستضم إلى خزائن هذه الدول.
الصفقات الاقتصادية الفاسدة أو السياسية
عام 2015 ألغت فرنسا عقد بيع حاملتي طائرات لروسيا، وبدأت بالبحث عن مشترٍ آخر. بعد أشهر فقط زار رئيس الوزراء الفرنسي مصر، ووقع صفقة بيع حاملتي الطائرات لمصر بنحو مليار دولار. أتت الصفقة بدعم مالي سعودي حسب تقارير، وفي إطار تثبيت النفوذ السعودي وحكم السيسي لمصر. في العام ذاته عقدت مصر صفقة بقيمة ستة مليارات دولار لشراء طائرات رافال من فرنسا، لتنقذ سبعة آلاف موظف في شركة داسو الفرنسية من التسريح. لا يوجد أي استخدام ضروري لتلك السفينتين من قبل الجيش المصري وذلك العدد من الطائرات في هذه الأوقات بالذات التي يتعرض فيها الشعب المصري لأسوأ أوضاع اقتصادية، ولا يبدو أن هناك تهديدًا بحرب على مصر وخاصة من إسرائيل. تفرغ هذه الصفقات جيوب الشعب المصري، وتوجه أموال الدولة إلى دعم اقتصادات دول أخرى من أجل أغراض سياسية، كتثبيت نفوذ السيسي في مصر والتغاضي عن انتهاكاته لحقوق الإنسان، بما فيها التعذيب وجرائم الحرب في سيناء.
في سوريا، هذه الصفقات كانت القاعدة، فكل من كان يستثمر في سوريا كان عليه دفع إتاوات لرجال النظام الحاكم، ومن بينهم رامي مخلوف ابن خال بشار الأسد، و”ملك السكر” فراس طلاس ابن وزير الدفاع السوري السابق مصطفى طلاس الذي كان يتقاضى 5% من قيمة الصفقات حسب مجلة فوربس الاقتصادية المتخصصة. تُعقد هذه الصفقات بتسهيلات من رجال النظام الحاكم ليستفيدوا ماليًا من علاقاتهم معه بما يخالف القانون ومصالح الشعب من أجل مصلحة مادية لفئة تنهب أموال الشعوب، وتصب في مصلحة دول أخرى على حساب الشعب السوري.
هذه الأمثلة غيض من فيض ممارسات “العالم المتحضر” التي تؤدي إلى إفقار الشعوب وتعزيز سلطة حكامها القتلة من أجل مصالحها المادية. على دول “العالم المتحضر” إعادة النظر في سياساتها تجاه الشعوب الفقيرة وحكامها، وإنهاء تواطئها المباشر أو غير المباشر في دعم نهب الشعوب وقتل حاضرها ومستقبلها