خطيب بدلة
كان الأديب الكبير محمد الماغوط يتناول مشاكل المواطن السوري، جوعه، قهره، أزماته، نكساته، خيباته، السجون التي يساق إليها، مطاعم الفول التي يضطر لارتيادها، المناهج المدرسية الغبية التي يجب عليه تعلمها، عناصر المخابرات الذين يبرزون مسدساتهم فوق خصورهم حينما يرونه، الأطباء الذين يبتزونه، وزارة المالية التي تشلحه، أكاذيب وزارة إعلامه التي تجبره فروعُ المخابرات على تصديقها، ثم الإذاعات وأجهزة التلفاز التي تحكي عن عبقرية قادته، ونضالاتهم ضد الاستعمار والإمبريالية والصهيونية، وانتصاراتهم في ساحات الوغى، وروعة مناهجه المدرسية، وعدالة قضاته وقضيته، وتهذيب مخابراته، وخلو المستشفيات التي يزورها من الصراصير، وابتغاء إعلامييه وجه الحقيقة الخالص، وتغلب حس المواطنة في البلد على المحسوبيات والشللية… وقبل أن يرسل مقالته إلى الجريدة كان يحذف كلمة “السوري” أينما وردت، ويضع مكانها كلمة “العربي”، ليقول للرقيب: طز بك وبرقابتك، إنني أتحدث عن المواطن “العربي”، فاكمشني إن كنت شاطرًا.
الكاتب السوري البعيد عن وطنه الذي يتعرض للتخريب منذ تسع سنوات، وشعبه الذي يباد ويهجر، ما عاد مضطرًا لأن يضع الرقابة على باله، بل يمكنه أن يضعها تحت “صرمايته”.. يحكي ويكتب عن سوريا بالعربي الفصيح، والقلم العريض، ولكنه، يا حسرتاه، لا يعرف ما يكتب، ولا يفهم ما يجري، يسمع باتفاقات وقف إطلاق النار، فتظهر على الأرض كما لو أنها إيذان بفتح أبواب جهنم على المدنيين، تأتيه الأخبار بأن نظام ابن حافظ الأسد أفلس وما عاد يمتلك ثمن فشكة واحدة يطلقها على صدر مواطن، وفجأة يراه ينفق ملايين الدولارات على حملاته العسكرية الساعية لقتل أهل ريف إدلب وريف حلب وتهجيرهم.. إذا سب على أمريكا وترامب وصفقة قرنه، لا يسمعه أحد، ولا يعترض عليه أحد، (سب وأحضر معك مَن يسب).. وإن حكى على الإبادة الروسية يظهر له وجه بوتين الخالي من أي انفعال وهو يحتجز ابن حافظ الأسد خلفه مثل الجرسون، بالتناوب مع وجه لافروف الاستعماري الذي يحكي في مجلس الأمن عن إرهابيين فارين من روسيا إلى سوريا، يقرأ عن صمود الفصائل في وجه العدو الصائل، وانتشار جثث قتلاه في العراء، فيسارع إلى لابتوبه ويكتب إن النصر قد تحقق، وقبل أن يضغط على زر “انشر” يأتيه خبر يقول إن المجاهدين المقبلين على العدو في معرة النعمان قد أدبروا إلى معبر أطمة ليأخذوا من النازحين أجرة نزوحهم، ويضعوها في بيت مال المسلمين فوق الأموال التي حصلوها على إثر غزوة كفرتخاريم المباركة.
نحتاج اليوم إلى ماغوط سوري يحدثنا عن المواطن “العربي” بالفعل، المواطن الذي خافت حكوماته على نفسها من المصير السوري، فسارعت إلى استنساخ تجربة حافظ الأسد ووريثه في قهر المواطن العزيز، وإعزاز الوضيع، ومنع الكتب، وتهجير الأذكياء، ونشر الخرافات والأباطيل، وتعليق صور الزعماء على الحيطان، وترك الحدود مع الأعداء داشرة، وإرسال الجنود لحماية القائد، وصور القائد، وعشيرة القائد، وتحضير الصور والأعلام والطبول والزمور تمهيدًا لسَوق الملايين إلى الشوارع لتركض وتصيح وتهتف باسم القائد المجرم.
وهكذا تنقرض الأمة العربية، وكأنها لم تكن.