تراجع معيشي وتشديد حكومي.. هل يقول السوريون “لا”؟

  • 2020/01/26
  • 12:59 م

رجل يجر عربة مثقلة بالأحمال في دمشق القديمة - 13 كانون الثاني 2020 (عدسة شاب دمشقي)

ميس شتيان | صالح ملص | زينب مصري | يامن مغربي

يتابع السوريون بشكل يومي مؤشرات تراجع الليرة السورية، التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، متأثرة بجملة من العوامل السياسية، ومؤثرة على صلب معيشة السوريين في مناطق سيطرة النظام السوري.

تترافق تلك المتابعات الحثيثة مع جملة من التوقعات، التي سرعان ما تترجمها لافتات أسعار المواد الغذائية، ثم المواد الاستهلاكية، وهو ما يتطلب بالضرورة مجموعة من القرارات وردود الفعل.

في جنوبي سوريا، وفي مدينة السويداء تحديدًا، أخذت ردود الفعل شكل الاحتجاج والرفض، عبر مظاهرات قادها مجموعة من الناشطين، وبقدر ما بدت ملهمة لناشطين في محافظات أخرى، لكن صداها لم يصل، في ظل تلويح حكومي بالقضاء ضد من “يهين الدولة ماليًا”.

تناقش عنب بلدي في هذا الملف أثر تراجع الوضع الاقتصادي في سوريا على معيشة السكان، والقرارات الحكومية المتعلقة بالتراجع الأخير لليرة السورية، وتنطلق من الاحتجاجات في السويداء لمعرفة مدى إمكانية تعميمها على بقية المحافظات السورية، في ظل الواقع الاقتصادي والمعيشي.

رجل كبير في السن يبيع في أحد أزقة دمشق – 17 تشرين الثاني 2019 (عدسة شاب دمشقي)

“بدنا نعيش”..

واقع معيشي متردٍّ يرفضه أهالي السويداء بالتظاهر

قرر حسان الانضمام إلى المظاهرات في السويداء، احتجاجًا على الأوضاع المعيشية الصعبة، فهو موظف حكومي، لا يسد ما يحصل عليه أول كل شهر، احتياجات عائلته للأيام العشرة التالية.

حسان (38 عامًا)، من أبناء قرية ملح بريف السويداء، يعمل في شركة الكهرباء، يقول لعنب بلدي إنه يمارس عملًا إضافيًا لتأمين دخل إضافي، إذ لا يتبقى من راتبه وراتب زوجته التي تعمل  مدرّسة، بعد دفع قسط البنك المترتب عليه شهريًا، سوى 70 ألف ليرة.

“نأكل اللحم في المناسبات، والبيض والحليب للأولاد فقط، ووجبات اليوم الثلاث تقتصر على العطل”، يقول حسان، مبررًا رغبته “في أن يصرخ بأعلى صوته”، دون أن يضمن نتيجة ذلك الصراخ.

يؤكد حسان أنه يحتاج على الأقل إلى 300 ألف ليرة سورية، ليؤمّن حاجاته وحاجات زوجته وولديه، في الوقت الذي تخلى فيه عن شراء العديد من أصناف الخضار والفواكه، واعتمد على محصول أرضه الزراعية، وتخلى عن شراء المازوت واعتمد على الحطب وأكياس النايلون  للتدفئة، ما يؤثر سلبًا على صحة طفليه.

وعن المصاريف الطبية يضيف حسان أن معظم الأطباء في المنطقة ألغوا عقودهم مع شركات التأمين، ما تسبب بأعباء مالية إضافية تترتب عند مرض أحد أفراد الأسرة، كما أن الأدوية المُسجلة على دفتر الصحة نادرة الوجود، مشيرًا إلى أن زوجته تحتاج إلى دواء أجنبي للغدة، يُكلف تسعة آلاف ليرة شهريًا.

ذلك الواقع دفع حسان للمشاركة مرات عدة في المظاهرات التي تشهدها محافظة السويداء، وانتقد الفساد وتردي الوضع المعيشي والاقتصادي، إلى جانب متظاهرين آخرين بدؤوا احتجاجاتهم في 15 من كانون الثاني الحالي، في مدينتي السويداء وشهبا.

خلال المظاهرات وصل المحتجون إلى ساحة السير أمام مبنى محافظة السويداء، مستنكرين انهيار الليرة السورية، وما وصفوه بالفساد الحكومي، كما هتف الأهالي لمحافظات طرطوس وحماة وحمص ودرعا واللاذقية ودمشق.

وكان شعار “الشعب السوري واحد” من أكثر الشعارات التي رددها المتظاهرون، بعد أن باتت الأوضاع الاقتصادية متدهورة في معظم الأراضي السورية.

وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) نقلت خبر مظاهرات السويداء، وقالت إن بضعة أشخاص تجمعوا في ساحة الرئيس أو ما تعرف بساحة السير وسط مدينة السويداء، وهتفوا “بدنا نعيش” اعتراضًا على الواقع المعيشي.

إذ تشهد الأسواق السورية في مناطق سيطرة قوات النظام السوري ارتفاعًا حادًا في أسعار المواد الغذائية، وصلت إلى 50% منذ بداية العام الحالي، كما اختلفت تسعيرة المواد الغذائية في تلك الأسواق عن التسعيرة الرسمية، وفق ما رصدته عنب بلدي من مصادر محلية، بالتوازي مع تراجع قيمة اليرة السورية إلى أكثر من ألف أمام الدولار.

رغم ذلك، يعيش 80% من السوريين تحت خط الفقر، وفق تقرير صادر عن الأمم المتحدة في آذار 2019، ويحتاج 11.7 مليون سوري إلى شكل من أشكال المساعدة، بما في ذلك الغذاء والرعاية الصحية والمأوى.

كما شهد مؤشر “القوة الشرائية” في العاصمة دمشق تراجعًا كبيرًا، وصل إلى 10.84 نقطة وصنفه موقع “NUMBEO” العالمي، بأنه منخفض جدًا، بينما سجل مؤشر “تكلفة المعيشة” انخفاضًا كبيرًا إلى 27.47 نقطة، وبلغ موشر “جودة الحياة” 34.35 نقطة.

ويبلغ متوسط الدخل الشهري حاليًا للمواطن السوري 150 ألف ليرة سورية، بينما يبلغ الحد الأدني للرواتب في سوريا 20 ألفًا و300 ليرة سورية، والحد الأعلى 663 ألف ليرة، وفق إحصائيات نشرها موقع “SalaryExplorer”.

لا يثق حسان كثيرًا بالإجراءات الحكومية، كما غيره من المحتجين في السويداء على انتشار الفساد، وضياع الأموال العامة بأيدي فئة صغيرة من المسؤولين، كما أنه لا يرى أملًا في أي إجراءات حقيقية تنقذ الوضع المعيشي، وتوقف تدهور الليرة السورية.

ولا تزال القبضة الأمنية واحدة من أكبر هواجسه، فهو رغم ظهوره في الاحتجاجات وهتافه في الشارع، تحفظ على نشر اسمه الكامل في لقائه مع عنب بلدي، خوفًا من الملاحقة والاعتقال.

وتؤرقه أيضًا المحاولات التي يقوم بها البعض للتماهي مع الإرادة الحكومية، المتمثلة بعدم نقد الوضع المالي أو الاحتجاج عليه، والاكتفاء بدعمه معنويًا عبر حملات، يرى أنها صُممت لـ”الضحك على المواطنين”.

تجمع مواطنين أمام مطعم أعلن عن بيع الطعام بليرة واحدة في حمص شارع الحمرا – 20 كانون الثاني 2020 (عدسة شاب دمشقي)

إجراءات حكومية للحد من تدهور الليرة

هل تثمر؟

دفعت الانخفاضات المتتالية لقيمة الليرة السورية مقابل الدولار منذ بداية العام الحالي، حكومة النظام السوري إلى اتخاذ إجراءات مشددة ضد المتعاملين بالدولار.

وسجلت الليرة مقابل الدولار في بعض الأحيان انخفاضًا بنسبة أكثر من 30% من قيمتها، مقارنة مع نهاية العام 2019، بحسب موقع “الليرة اليوم” المختص بأسعار صرف العملات.

عقوبات جنائية

أهم الإجراءات التي اتخذتها الحكومة هو المرسوم الذي أصدره رئيس النظام السوري، بشار الأسد، في 18 من كانون الثاني الحالي، الذي ينص على فرض عقوبة السجن ودفع غرامة مالية للمتعاملين بغير الليرة السورية، وجاء المرسوم تعديلًا للمادة الثانية من المرسوم التشريعي رقم 54 لعام 2013، الذي كان يعاقب المتعامل بغير الليرة بالحبس من ثلاثة أشهر إلى ثلاث سنوات.

وبحسب المرسوم الجديد، فإن كل شخص يتعامل بغير الليرة السورية كوسيلة للمدفوعات “يعاقب بالأشغال الشاقة المؤقتة لمدة لا تقل عن سبع سنوات”، كما يعاقب بـ”الغرامة المالية بما يعادل مثلي قيمة المدفوعات أو المبلغ المتعامل به أو المسدد أو الخدمات أو السلع المعروضة”، إضافة إلى مصادرة المدفوعات أو المبالغ المتعامل بها أو المعادن الثمينة، لمصلحة مصرف سوريا المركزي.

وأصدر الأسد مرسومًا ثانيًا أكد فيه فرض عقوبة “الاعتقال المؤقت”، وغرامة من مليون إلى خمسة ملايين ليرة سورية، لكل من أذاع أو نشر أو أعاد نشر وقائع ملفقة أو مزاعم كاذبة أو وهمية بإحدى الوسائل، لإحداث التدني أو عدم الاستقرار في أوراق النقد الوطنية أو أسعار صرفها المحددة بالنشرات الرسمية، ولزعزعة الثقة في متانة نقد الدولة وسنداتها.

وتزامنت المراسيم مع تحذير أطلقته وزارة الداخلية من التعامل بغير الليرة السورية في التداول التجاري، وأكدت الوزارة، عبر حسابها في “فيس بوك”، في 17 من كانون الثاني الحالي، تكثيف دورياتها لمراقبة الشركات والمحلات والأشخاص، في محاولة لقمع الظاهرة وضبط المخالفين.

مصرف سوريا المركزي بدوره أصدر تعميمًا، في 20 من كانون الثاني الحالي، أعلن فيه استعداده لشراء الدولار من المواطنين بالسعر التفضيلي الذي حدده للمنظمات الإنسانية وهو 700 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد ومن دون وثائق.

مسمار آخر في نعش الاقتصاد

عنب بلدي التقت رئيس مجموعة “عمل اقتصاد سوريا”، أسامة القاضي، لمحاولة توضيح الأسباب الاقتصادية التي دفعت حكومة النظام لإصدار هذه المراسيم واتخاذ هذه الإجراءات المُشددة في هذا الوقت بالتحديد، ضد المتعاملين بغير الليرة السورية.

وصف القاضي إجراءات النظام الأخيرة بأنها “هستيرية”، وتدل على أن صانع القرار الاقتصادي السوري “فقد توزانه تمامًا”، لافتًا إلى أنها أعادت حقبة الثمانينيات عندما مُنع التعامل بالعملة الصعبة وأُغلقت محلات الصرافة، وتوقفت هذه الإجراءات في عام 1991 مع القانون رقم 10، في عهد حافظ الأسد الذي سمي بعهد قانون “الانفتاح الاقتصادي”.

وأضاف القاضي أن بشار الأسد انقلب على أكثر من 1200 مرسوم تشريعي أصدرها منذ عام 2000، من أجل المزيد من الانفتاح الاقتصادي.

ويرى القاضي أن النظام يدق بهذه الإجراءات “مسمارًا جديدًا في نعش الاقتصاد السوري”، الذي تعرض لأزمات بعد المشكلة المالية الكبيرة في المصارف اللبنانية التي جمّدت أموال كثير من السوريين في تلك المصارف، وقانون العقوبات الاقتصادية الأمريكي على سوريا “قيصر”، الذي بدأت مؤشرات قوته تظهر على الاقتصاد السوري.

بينما ستشهد سوريا، بحسب القاضي، في ضوء القرارات الجديدة، عزوف عدد كبير من الصناعيين والتجار عن استثماراتهم بسبب عدم تمكنهم من تأمين القطع الأجنبي اللازم لتمويل صناعاتهم وتجاراتهم، الأمر الذي سيرفع نسبة البطالة إلى أكثر من 80%، والفقر إلى نحو 90%.

وأشار القاضي إلى أن العملة السورية ستشهد تحسنًا طفيفًا على المدى المنظور بسبب توقف العرض والطلب، ولكن ستشهد على المدى البعيد تراجعًا كارثيًا، إذا بقيت تلك المراسيم والقرارات، مؤكدًا انه لا حلّ لكارثة الاقتصاد السوري إلا بوجود حلّ سياسي يعيد للنظام المعابر والنفط والأراضي الزراعية.

مراسيم تشريعية “معيبة”..

كيف خالف الأسد دستوره؟

يحمل المرسومان 3 و4 اللذان أصدرهما الأسد إجراءات تعتبر “تدخلًا من السلطة التشريعية في أعمال السلطة القضائية”، وتخالف بذلك مبدأ فصل السلطات الذي نص عليه الدستور السوري لعام 2012، ومبدأ استقلالية القضاء، وهو ما أكده المحامي ومدير تجمع المحامين السوريين في تركيا، غزوان قرنفل.

ومن وجهة نظر قرنفل، لا يوجد في سوريا فصل للسلطات، وإنما تتركز جميعها بيد رئيس الجمهورية، وبحسب مبادئ العملية التشريعية فإن من المفترض صدور المراسيم من تحت جناح قبة البرلمان السوري بشكل حصري، ويعتقد قرنفل أنه تم سلب حق مجلس الشعب بدمشق، في صنع القوانين أو تعديلها لتتوافق مع ما هو أفضل للواقع القانوني والاجتماعي في سوريا.

ووفق الدستور، تنص “المادة 132” على أن السلطة القضائية مستقلة، ويضمن رئيس الجمهورية هذا الاستقلال، ويعاونه في ذلك مجلس القضاء الأعلى.

ويعلل قرنفل عدم استقلالية القضاء وفق المرسومين، باعتبار رئيس الجمهورية هو رئيس مجلس القضاء، ووزير العدل بحكومته هو نائب رئيس مجلس القضاء، وهو أيضًا من يعين ويقيل أعضاء المحكمة الدستورية العليا.

وانتزع المرسوم رقم 4 صلاحية القاضي بإخلاء سبيل المتهم حتى صدور الحكم النهائي في القضية، كما يخالف المرسوم مبدأ قرينة البراءة المفترضة بكل شخص، التي حماها الدستور في “المادة 33″، التي نصت على أن “الحرية حق مقدس وتكفل الدولة للمواطنين حريتهم الشخصية وتحافظ على كرامتهم وأمنهم”.

وكذلك صلاحية القاضي في منح الأسباب المخففة التقديرية، ما يجعل منه مجرد قلم يكتب ما تقرره السلطة التنفيذية بصيغة أحكام قضائية.

الحد الأدنى والحد الأعلى للرواتب الشهرية في سوريا (عنب بلدي)

سوريا “بيئة غير مناسبة للاحتجاجات”

هل السويداء استثناء؟

شهدت محافظة السويداء جنوبي سوريا، في الأيام القليلة الماضية، عدة تحركات معارضة لسياسة النظام السوري الاقتصادية والسياسية.

وتعامل النظام مع هذه التظاهرات بشكل لافت، إذ نقلت وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا) هذه الاحتجاجات، ولم تتدخل قوات أمن النظام للتعامل معها بشراسة كما فعلت ببقية المدن التي عارضته، فهل يعني ذلك أن النظام السوري غيّر من طريقة تعامله مع الاحتجاحات؟ وما الذي يميز السويداء في هذا الإطار؟

القبضة الأمنية راسخة

ألقت إدارة الأمن الجنائي في سوريا القبض على أشخاص بتهمة تصريف العملات الأجنبية وتحويل الأموال دون ترخيص، في إطار تشديد وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك حملاتها ضد المتعاملين بغير الليرة السورية، واستجابة للمرسومين التشريعيين الأخيرين.

وهو ما عزز الاعتقاد السائد بأن النظام السوري ما زال يستخدم القبضة الأمنية، في إطار ضبط الواقع الاقتصادي، كما السياسي، وهو ما يشير إلى عدم إمكانية التساهل مع أي موجات احتجاجية.

المحامي السوري، ومدير “المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية”، أنور البني، لا يرى في المرسومين التشريعيين، تعبيرًا عن رغبة النظام في إعادة هيمنته الأمنية على المناطق التي يسيطر عليها عسكريًا، فهو لا يحتاج إلى حجة قانونية لاعتقال من يريد من الأشخاص، أو إنشاء أجواء من الذعر في المدن الخاضعة لسيطرته.

وكانت تقارير حقوقية عدة أثبتت استمرار القبضة الأمنية للنظام السوري على المناطق التي يسيطر عليها، أو التي استعاد السيطرة عليها خلال العامين الماضيين.

إذ اعتقلت قوات النظام عام 2019، في المناطق التي سيطرت عليها، بما فيها الغوطة الشرقية ودرعا وجنوب دمشق، مئات الناشطين وقادة المعارضة السابقين وأفراد عائلاتهم، رغم أنهم وقّعوا جميعًا على اتفاقيات مصالحة مع حكومة النظام تضمن عدم اعتقالهم، وفق تقرير أحداث العام الصادر عن منظمة “هيومن رايتس ووتش”.

ومات الآلاف رهن الاعتقال من قبل النظام السوري بسبب التعذيب وظروف الاحتجاز “الرهيبة” في 2019، وفق المنظمة، وحدّث النظام السوري سجلات مئات “يُعتقد أنهم فُقدوا أو توفوا، لكن لم تتلقَّ أي من أسرهم رفات أبنائها أو معلومات إضافية من حكومة النظام”.

وفي أيار 2019، كانت “هيومن رايتس ووتش” من بين ثماني منظمات مجتمع مدني سورية ومنظمات حقوقية دولية دعت الدول الأعضاء في مجلس الأمن الدولي إلى المعالجة العاجلة للاعتقالات التعسفية الواسعة النطاق، والاختطاف، والتعذيب وغيره من صنوف سوء المعاملة، والإخفاء القسري لعشرات الآلاف السوريين على أيدي القوات الأمنية التابعة للنظام.

هل السويداء استثناء؟

تواصلت عنب بلدي مع مصدر أمني في السويداء، لمعرفة الطريقة التي تعامل بها النظام مع الاحتجاجات، ووصفها بأنها كانت “لينة” توحي بأنه “ما زال يحمي الأقليات”، على اعتبار أن أغلب سكان المحافظة من أبناء الطائفة الدرزية.

وأضاف المصدر (الذي تحفظ على نشر هويته لأسباب أمنية)، أن هناك مجموعة مرجعيات تخضع لها السويداء هي من تتولى المحافظة على الوضع الأمني فيها، دون تدخل النظام بشكل مباشر بهذا الشأن.

وكانت السويداء من المحافظات التي شهدت مظاهرات مناهضة للنظام في بداية الثورة السورية، لكن النظام، الذي لم يتدخل مباشرة في قمعها، تعاون مع ميليشيات محلية، من أبناء المحافظة، للقيام بالمهمة، وهو ما توصلت إليه عنب بلدي في تحقيق سابق بعنوان “السويداء.. جزيرة معزولة تنتظر مصيرها”.

رغم ذلك، مارست تلك الميليشيات جرائم الخطف والاغتيال وانتهاكات أخرى، بحسب المصدر الأمني، في ظل “تقاعس” من النظام في السيطرة على الوضع.

بينما يتوقع مواطنون في السويداء أن تسهم هذه الميليشيات، إلى جانب القرارات الأخيرة للنظام، بتقليل أثر الاحتجاجات ورقعتها في المحافظة، وهو ما يؤكده تراجع المظاهرات بعد أقل من أسبوع على اندلاعها.

مظاهرات مدينة السويداء – كانون الأول 2019 (السويداء 24)

كيف تعاطى السوريون مع احتجاجات السويداء؟

رافق انطلاق مظاهرات السويداء، في 15 من كانون الثاني الحالي، احتجاجًا على غلاء الأسعار وتردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، دعوات لناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي لوقفات سلمية احتجاجية تحت شعار “بدنا نعيش”، وهو الشعار الذي رفعه المحتجون في السويداء.

وأسس ناشطون صفحات ومجموعات على موقع “فيسبوك” تحت اسم “بدنا نعيش” أكدوا من خلالها سلمية الاحتجاجات، ودعوا إلى ضبط النفس خلال الحراك وإلى عدم استخدام السلاح الأبيض أو أي أسلحة أخرى.

أضحت الصفحات التي تحمل شعار الحملة ساحة احتجاج لناشطين من مختلف المدن السورية كجرمانا وسلمية وجبلة، وآخرين خارج سوريا، عبروا عن تضامنهم مع احتجاجات أهالي السويداء.

وفي حديث لعنب بلدي مع أحد مؤسسي حملة “بدنا نعيش”، (نتحفظ على نشر اسمه حرصًا على سلامته)، أكد حرص المؤسسين على عدم استغلال حراكهم من قبل أي جهة خارجية وتشويه مسار “الحراك السلمي”، وتحييده عن المطالب الأساسية التي تتمحور حول الأوضاع المعيشية و”الفساد المستشري” في مؤسسات الدولة، والاحتجاج على تصرفات “تجار الأزمة والمحتكرين والمتلاعبين باقتصاد البلاد”، موجهًا صرخة “لكل الجهات وللجميع” مفادها “بدنا نعيش.. مكملين”.

وأضاف المصدر أن المطالب واضحة، وليس من المقبول المتاجرة بأوجاع الناس وتصوير احتجاجاتهم بما لايقصدونه ويطالبون به، مؤكدًا على أن الحملة لا تتبع أي جهة سياسية أو دينية مع نفيه عنها صفة المعارضة أو الموالاة.

وكما انتقل الحراك على أرض الواقع من مدينة السويداء إلى مدينة شهبا في المحافظة نفسها، انتقل حراك الناشطين في العالم الافتراضي على مواقع التواصل الاجتماعي، وأسسوا صفحة “بدنا نعيش- مدينة سلمية”، لنقل الاحتجاجات إلى مدينة سلمية شرقي حماة.

الصفحة التي يتابعها ما يقارب الألف شخص، أظهرت تضامن مدينة سلمية مع الاحتجاجات من خلال بيان نشره المسؤولون عنها “لتوحيد الشعارات” مع أهالي السويداء، وضحوا فيه أن حملة “بدنا نعيش” حملة شبابية غير منظمة وعفوية الانطلاق ولا تنضوي تحت أي غطاء سياسي أو ديني أو طائفي، كما أكدوا على مطالبهم بالعيش “بسلامة وكرامة وأمن”، مشيرين إلى أن “الجوع يجمع كل موجوع معارض أو موالٍ”.

كما نشروا طلبات المتابعين التي اعتبروها “مفيدة للحملة”، وعزموا على تطبيقها، كإنشاء مجموعة على “فيس بوك” لتداول المواعيد وتحديد أماكن التظاهر، بالإضافة إلى اقتراحاتهم حول الشعارات التي يريدون الهتاف بها في الاحتجاجات.

وبيّن القائمون على الصفحة عبر منشور بتاريخ 21 من كانون الثاني الحالي، فشل محاولتهم التظاهر في الساحة العامة بمدينة سلمية الساعة الثالثة بسبب انتشار كثيف للأمن والشرطة، مشيرين إلى أن أعداد الأمن الذين كانوا موجودين لمنع التظاهرة، كانت أكثر من أعداد المتظاهرين.

ورصدت عنب بلدي عبر صفحات محلية على “فيس بوك” تضامن سوريين من محافظة طرطوس مع مظاهرات السويداء، من خلال تعليقات على صور للمظاهرات نشرتها الصفحة، على عكس سوريين آخرين اعتبروا من خلال تعليقاتهم على صور الاحتجاجات أنها “مسيسة” أو “لعبة ضد الشعب”.

بفعل العوامل النفسية الناجمة عن تراجع الاقتصاد

هل تشهد سوريا احتجاجات جديدة؟

فتحت مظاهرات السويداء، والدعوات إلى تكرارها في محافظات أخرى، باب التساؤلات حول مدى إمكانية أن تشهد ساحات سورية أخرى احتجاجات على تراجع الوضع المعيشي، على اعتبار أنه بات سمة عامة لمناطق سيطرة قوات النظام في سوريا.

لكن قبل الإجابة عن هذا التساؤل، لا بد من الحديث أولًا عن أشكال انعكاس الواقع الاقتصادي على الحالة النفسية للمواطنين، وبالتالي على دوافعهم وردود فعلهم، التي قد تقود إلى الاحتجاج.

خصوصية الحالة السورية

يرى الطبيب النفسي جلال نوفل أن العلاقة بين الحالة الاقتصادية والحالة النفسية والاجتماعية في المجتمع، ليست علاقة خطية بشكل نهائي، بل تتوسطها مجموعة كبيرة من العوامل والمؤثرات.

وفي الحالة المحلية، المجتمع السوري “مهزوم” إلى درجة كبيرة، وفق نوفل، الذي شرح ذلك بالقول، “حصلت ثورة ودُمرت سوريا نتيجة ردود فعل السلطة القائمة، لذا ثقة المجتمع بنفسه منخفضة، وربما الناس لا يملكون القدرة على مواجهة البطش الهائل من النظام السوري أو الجماعات الأخرى الموجودة في سوريا”.

ووفق نوفل، فإنه ليس من الضروري أن تشهد سوريا حالة من التذمر والاحتجاج واستعادة الرغبة بالتغيير، نتيجة الخبرة المكتسبة خلال السنوات التسع الماضية.

مزيد من الاحتجاجات؟

يرى الصحفي السوري الذي ينحدر من محافظة السويداء عهد مراد، أنه في حال كُتب لمظاهرات السويداء الاستمرار لأيام أطول، ستجد تجاوبًا في مناطق أخرى.

وبرر مراد ذلك في حديث سابق لعنب بلدي بقوله، إن المظاهرات “مطلبية بحتة”، والشارع في المحافظة “غير مصطف سياسيًا ولا ينتمي لقوى المعارضة في معناها السياسي النمطي الموجود في الذاكرة السورية القريبة، لكنه في المقابل يعبر عن احتجاج صريح على الفساد ومآلاته وسلوك السلطة”.

ولم يجزم الطبيب النفسي جلال نوفل، بمصير هذه الاحتجاجات، لكنه لا يرى أن “الجوع ينتج بالضرورة ثورة”.

وقد تقلل الحالة السورية من هذه الفرصة، خاصة “مع عدم نضج الشروط السياسية التي تتيح أن تنعكس الحالة النفسية والاجتماعية للناس، على التعبير عن المشاعر والأفكار، التي تحمل قدرًا من الاحتجاج والتذمر”.

مواطن أمام حاوية قمامة في منطقة الشهبندر وسط دمشق – 25 تشرين الأول 2019 (عدسة شاب دمشقي)

مقالات متعلقة

تحقيقات

المزيد من تحقيقات