بقلم: أسامة آغي
شهد تاريخ الحادي والعشرين من كانون الثاني الحالي حدثًا جديدًا في منطقة شمال شرقي سوريا، التي يطلق عليها تسمية “شرق الفرات”، حيث اعترضت دورية عسكرية أمريكية طريق قافلة عسكرية روسية في منطقة المالكية التابعة لمحافظة الحسكة، والقريبة من معبر سيمالكا الحدودي النهري مع العراق.
هذا الإجراء الأمريكي تكرّر أكثر من مرة في محافظة الحسكة، إذ تمّ اعتراض مرور قافلة روسية على الطريق الدولي، الذي يربط بين حلب ومنطقة اليعربية على الحدود العراقية- السورية. هذا الاعتراض العسكري الأمريكي أطلق عليه مراقبون مصطلح “تحرّش”، وهذا المصطلح يدلّ لغويًا على (استفزاز مقصود).
وفق هذا السياق يمكن اكتشاف طبيعة العلاقات الأمريكية- الروسية بشأن ملف الصراع في سوريا، وأبعاد هذا الملف على المستويات المختلفة. فمن الواضح أن السلوك الأمريكي الجديد حيال الروس، يفصح عن تغيّر عميق في الاستراتيجية الأمريكية في هذا البلد.
وليس من باب المصادفة أو اللغو الدبلوماسي تصريحات جيمس جيفري الأخيرة، وهو المبعوث الأمريكي الخاص المكلف بالملف السوري، التي قال فيها صراحة: “إن طريق أستانة وسوتشي قد فشل”. ولعل هذا التصريح الأمريكي، يجسّد غضبًا أمريكيًا من الجهود الروسية الحريصة على الإمساك بكل خيوط الصراع السوري، وتحديدًا بعد إفشال الروس عبر ممثلي النظام مفاوضات جنيف الخاصة باللجنة الدستورية.
التحرّش الأمريكي يخفي خلفه بوادر سياسة أمريكية مختلفة حيال ملف الصراع في سوريا، هذه البوادر لا تقف عند حدود منع الروس عسكريًا من المرور على الطريق الدولي “M4″، بل تتعداها إلى تصريحات رسمية أمريكية، بضرورة وقف العمليات العسكرية الوحشية للنظام السوري وحلفائه الروس والإيرانيين في محافظة إدلب، وفي غرب حلب. ولبيان أهمية هذه التصريحات زاد الأمريكيون حشدهم العسكري البحري في البحر الأبيض المتوسط، وفي مياه الخليج العربي.
إن اجتماع وفد أمريكي بقيادات فصائل “الجيش الوطني” السوري المدعوم تركيًا في أنقرة هو دليل حيّ على ولادة استراتيجية أمريكية جديدة، هذه الاستراتيجية لم ترق للروس، بل اعتبرتها موسكو تحديًا لدورها في الصراع السوري المنحاز للنظام، وردّت عليها عبر حملة ذات بعدين اثنين (دبلوماسي وعسكري) تمثّلا بدعوة ملحقين عسكريين ودبلوماسيين أجانب لعرض سياسي روسي.
هذه الفجوة الكبيرة في رؤية البلدين (روسيا والولايات المتحدة) لملف الصراع السوري، تكشف عن تعطيل روسي لجهود الولايات المتحدة بإخراج إيران من هذا البلد، وهذا يقود إلى تعطيل أمريكي جدي لكل محاولات روسيا بالتغلغل في شرق الفرات عبر تناقضات قسد مع الدورين الأمريكي والتركي.
الروس يدركون بعمق أن إخراج إيران من سوريا دون ضمانات حقيقية لمصالحهم فيها، يعني فشل تورطهم العسكري في هذا البلد والخروج منه بأقل كمية من “حمّص المولد”، وهذا هو سبب محاولاتهم في منطقة شرق الفرات، التي يريدون من خلالها إخراج الأمريكيين من هذه المنطقة، وفرض أجندتهم ونفوذهم فيها، للوصول إلى الإمساك بكل خيوط الصراع السوري.
لذلك يمكن فهم التعرّض الأمريكي لحركة الدوريات الروسية في شرق الفرات على أنها رسالة أمريكية صريحة، هذه الرسالة مفرداتها تقول: يمنع تشغيل الطريق “M4” والاقتراب من مكامن الثروة النفطية قبل تغيير الموقف الروسي من وجود إيران في سوريا، ومن ضرورة تنفيذ القرار الدولي 2254 الذي تعطّل روسيا تنفيذه. إضافة إلى ضرورة وقف الهجمات الوحشية على إدلب وغربي حلب، التي يهدف الروس منها إلى تصفية المعارضة ووجودها على الأرض، وهو تناقض خطير مع الرؤية التركية والأمريكية والغربية عمومًا لحل الصراع السوري.
ولكن إلى أي مدى يستطيع الروس اللعب عند حدود التحرّش الأمريكي؟ وهل يمكنهم تجاوز حدود هذا التحرّش والالتفاف عليه؟ وهل هم في وارد تقديم تنازلات جدية على مستويين تريدهما الولايات المتحدة وتحشد لأجلهما. هذان المستويان هما: طرد إيران من سوريا ومن ثم من الإقليم برمته؟
الجواب واضح وجلي للروس، ويتمثّل هذا الأمر بالنقاط التالية: لا يمكن للروس أو حلف النظام اللعب بمسألة استثمار نتائج التدخل الروسي- الإيراني في سوريا لمصلحتهما دون رضا أمريكي، ولهذا يبدو أن قانون “سيزر” (حماية المدنيين في سوريا) هو سيف مسلّط على رقاب هذا الحلف، يمنعه من هذا الاستثمار قبل تلبية الاحتياجات السياسية الأمريكية في هذا الملف، وأن حدود تحمّل الروس لهذا المسار الخطير، الذي يلعبون عند حافته، هي محدودة الزمن، لأن تكلفة عدم الحل بالنسبة لهم ستزيد كلما تأخر الحل وبقوا في مربعهم المساند جزئيًا لإيران.
إن محاولات الروس الاستفادة من نفط منطقة شرق الفرات لإعادة إنتاج النظام السياسي السوري، وفق قاعدة أستانة وسوتشي، هي محاولات ستصطدم بجدار الوجود الأمريكي في هذه المنطقة، وإن “قسد” لن تنجرف إلى حدود مساندة الروس وكشف ظهرها للأمريكيين والأتراك، رغم مناورات مجلسها السياسي، الذي يلّوح تارة بالحوار مع خصومه الكرد في “المجلس الوطني السوري”، وأخرى يلّوح بالحوار مع النظام الذي يعتبره خائنًا للقضية الوطنية بسبب تحالفه مع الأمريكيين.
إذًا يمكننا القول، إن قدرة الروس على تحدي الأمريكيين في شرق الفرات هي قدرة محدودة الأثر على الأرض، وإن مماطلة الروس لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254 لن تكون بمصلحتهم، التي تتمثل بضرورة التوافق مع الولايات المتحدة ومع الغرب، وتحديدًا بفتح الطريقين “M4” و”M5″، أمام التجارة الدولية، ضمن رؤية شاملة للحل السياسي في سوريا ودون سيطرة النظام عليهما، وكذلك إدراج جدول أعمال إعادة الإعمار بالتزامن مع تنفيذ الانتقال السياسي في هذا البلد.
هذا يسمح لنا بالقول، إن إدلب خط أحمر أمريكي، وإن التوافق على تنفيذ القرارات الدولية هو الممكن والضروري أمريكيًا، وإن الأيام المقبلة تعمل لمصلحة تغيير الوضع العام للصراع في سوريا، لمصلحة انتصار يريده ترامب، ليدخل من خلاله بوابة انتخابات الرئاسة الأمريكية في الربع الأخير من هذا العام بقوة.
بقي أن نسأل، هل سيتحول هذا التحرّش الأمريكي إلى عتبة أخرى مع الروس، وتحديدًا بما يسمح باحتمال حدوث تصادم عسكري يتجنبه الروس، وقد جربوه من قبل في دير الزور حين حاولوا السيطرة على آبار الغاز ومعامله المسماة (كونيكو) شرقي دير الزور؟ الجواب مفتوح على احتمالات أضعفها هو التصادم الروسي- الأمريكي في سوريا.