خطاب مسموم يختصر الواقع السوري
أين خرق الإعلام اللبناني أخلاقيات الصحافة في قضية نانسي عجرم
عنب بلدي- يامن المغربي
في الساعات الأولى بعد حادثة حصلت في مزرعة للفنانة اللبنانية نانسي عجرم، لا تزال ظروفها ضبابية إلى اليوم، سمّت “الوكالة الوطنية للإعلام“، وهي الوكالة الإخبارية الرسمية للدولة، اللاجئ وذكرت جنسيته وتاريخ مولده متهمة إياه بأنه سارق دخل المزرعة بهدف السرقة.
ركزت وسائل إعلام لبنانية في سرد تفاصيل الحادثة، في 5 من كانون الثاني الحالي، على جنسية اللاجئ السوري واسمه، واصفة إياه بأنه “لص قتل في أثناء محاولة اقتحام المزرعة”، في حادثة انتهت بقتله “دفاعًا عن النفس”، وسط كثير من التفاصيل التي تعتمد عنصر الإثارة، ما أسهم بترسيخ صور نمطية متداولة عن السوريين في لبنان.
لكن القضية لم تُحسم في أروقة القضاء، وبعد أخذ ورد وتفاصيل غير واضحة، وجهت السلطات اللبنانية تهمة القتل العمد لزوج نانسي عجرم، فادي الهاشم، في 15 من كانون الثاني الحالي.
تنص المادة 11 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن كل شخص متهم بجريمة يعتبر بريئًا إلى أن يثبت ارتكابه لها قانونًا في محاكمة علنية تكون قد وفرت له فيها جميع الضمانات اللازمة للدفاع عن نفسه. |
أين أخلاقيات الصحافة؟
ويعد ذكر جنسية الضحية والتركيز عليها في العناوين، أولى النقاط التي أثارت الانتباه حول طريقة تعامل وسائل إعلام لبنانية مع القضية، وفتحت نقاشات حول مخالفتها للسياسات التحريرية وأخلاقيات العمل الصحفي.
الصحفي اللبناني مهند الحاج علي يوضح أن هناك مشكلتين في هذه الأخبار: أولاهما، الحديث عن سوري مسلح دخل إلى المنزل ملثمًا، والتركيز على جنسية الشاب (سوري)، للمساعدة على جذب التعاطف مع الفنانة وزوجها، والمشكلة الثانية، عدم كشف وسائل الإعلام تلك عن رواية أخرى تتعلق بالقضية.
وأشار مهند الحاج علي، في حديث إلى عنب بلدي، إلى الأخبار التي تم تداولها لاحقًا، والتي تكشف أن الضحية لم يكن دخيلًا وغريبًا، بمعنى أنه كان عاملًا في المنزل، ولم يكن مسلحًا سوى بمسدس بلاستيكي، وأن هناك خلافًا ماليًا سابقًا، ربما يفسر عدد الرصاصات غير الطبيعي في جسده.
ونشرت وسائل إعلام لبنانية تقرير الطبيب الشرعي، مالك هلال، الخاص بالجثة، في 10 من كانون الثاني الحالي، وأكد وجود 17 رصاصة في أماكن متفرقة من جسد القتيل.
وترى الإعلامية اللبنانية ديانا مقلد، في حديث إلى عنب بلدي، أن عدد الرصاصات بحد ذاته كافٍ لإثارة الأسئلة التي تحتاج إلى تدقيق وتحقيق عادل، واصفة طريقة تعامل وسائل الإعلام مع الحادثة “بالمقيت”، خاصة مع انحياز وسائل الإعلام وشخصيات عامة إلى جانب نانسي عجرم قبل ظهور أي حقائق.
ولا يمكن لوسائل الإعلام أن تذكر جنسية أو لون أو طائفة أو عرق الضحية أو الجاني، إلا ضمن أطر معينة وضوابط دقيقة ولها أسبابها، وذلك لحساسية هذا النوع من القضايا ولسهولة استخدامها للتحريض.
وأشارت ديانا مقلد إلى أنه في المقابل شهدت القضية تحركًا حقوقيًا من قبل محامين وإعلاميين وجهات مستقلة تمكنت من الضغط لمحاولة إحقاق العدالة في هذه القضية.
خطاب مسموم يختصر الواقع السوري في لبنان
الجدل حول طريقة تعاطي وسائل الإعلام اللبنانية مع القضية لم يتوقف عند ذكر جنسية القتيل، بل وصل إلى الدفاع عن نانسي عجرم وزوجها من قبل وسائل إعلام، حضرت مؤتمرًا صحفيًا دعت إليه نانسي في منزلها لإيراد وجهة نظرها في القضية.
وأُنتجت عشرات المواد الصحفية عبر أشهر المحطات التلفزيونية اللبنانية وفي مواقعها الإلكترونية، تتهم الضحية بالسرقة دون صدور أي حكم قضائي يؤكد التهمة، لتعيد الفنانة نشرها عبر حسابها في “تويتر”.
وتقول ديانا مقلد إن الجريمة أتت لتعطي مساحة جديدة لنفس الأسلوب في بث خطاب “مسموم وتعميمي”، مع العلم أن لا أحد يعرف تمامًا ماذا حصل، بينما يرى مهند الحاج علي أن الحادثة فردية لكنها تختصر الواقع السوري في لبنان ونتائج الحملة السياسية الممنهجة ضد اللاجئين.
ويقول مهند الحاج علي إن اللاجئين السوريين عرضة لحملة سياسية تقوم على تحميلهم مسؤولية كل أزمات البلد، اقتصاديًا واجتماعيًا وأمنيًا. ونانسي رمز فني لبناني، ما يزيد الأمور تعقيدًا.
الصحفي السوري سامر قطريب يرى أن اللاجئ في هذه الحالة كان ضحية مرتين، مرة لضعفه ومرة لكونه لاجئًا، كما أن بعض وسائل الإعلام اللبنانية استغلت الجريمة في بيت نانسي لتغطي على المظاهرات الشعبية في لبنان، ووجدت موضوعًا تملأ به ساعات البث عوضًا عن تغطيتها المظاهرات، خاصة القنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية التابعة لأحزاب السلطة.
إلا أن الصحفي السوري نبيل محمد يشير إلى نقطة مختلفة تتعلق بوسائل الإعلام السورية التي تناولت الحدث، والتي حولته إلى منحى سياسي وعنصري، بينما القضية في أساسها هي قضية جنائية بحتة تحتاج إلى محامين ولجان قضائية.
ويضيف نبيل محمد لعنب بلدي أنه من الجيد تضخيم القضية إعلاميًا ولفت أنظار لجان قضائية ومحامين ليدخلوا إلى القضية حتى لا تحرم الضحية من الدفاع عنها، لكن لا يجب وجود هذا التحشيد لصناعة “مظلومية سورية” لأن اللاجئين السوريين مظلومون بالأساس.
في العام 1948 تبنت الأمم المتحدة “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”، وجاء في المادة 19 منه “لكل شخص الحق في حرّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حق اعتناق الأفكار دون مضايقة، وتلقي المعلومات والأفكار بغض النظر عن الحدود”.
وتعد “الاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري” (1965)، التي رعتها الأمم المتحدة، أول معاهدة دولية تتناول موضوع “خطاب الكراهية” بشكل مباشر، إذ اعتبرت أن “كـل نشر للأفكار القائمة على التفوق العنصري أو الكراهية العنصرية، وكل تحريض على التمييز العنصري، وكل عمل من أعمال العنف أو تحريض على هذه الأعمال يرتكب ضد أي عـرق أو أي جماعة من لون أو أصل إثني آخر (…) جريمة يعاقب عليها القانون”.
أما “العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية”، الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1966، فيدعو إلى ضرورة تجريد الرسائل الإعلامية من أدوات الكراهية، إذ تنص المادة 19 منه على “احترام حقوق الآخرين واحترام سمعتهم”، بينما تنص المادة 20 على “حظر أي دعاية للحرب بموجب القانون، وحظر أي دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضًا على التمييز أو العداوة أو العنف”.
وإلى جانب هذه القرارات، اعتمدت عدة دول واتحادات حول العالم مواثيق خاصة بحرية التعبير، إلا أنها بدت في المجمل غير مفصلة فيما يخصّ خطاب الكراهية، بحسب تقرير للمفوضية السامية لحقوق الإنسان بعنوان “التحريض على الكراهية العنصرية والدينية وتعزيز التسامح” (2006).
لماذا يركز الإعلام اللبناني على السوريين؟
شهدت السنوات الماضية تركيزًا من قبل وسائل إعلام لبنانية على اللاجئين السوريين وتصيد أخطاء ومشاكل يقع فيها اللاجئون، وتحميلهم مسؤولية مشاكل لبنان الاقتصادية والسياسية وحتى سوء الخدمات، عدا عن السخرية منهم في برامج تلفزيونية ومسلسلات كوميدية.
بعض هذه السخرية جاءت من فنانين لبنانيين عملوا سابقًا في مسلسلات سورية، وهو ما يدفع متابعين مهتمين بأحوال اللاجئين السوريين للسؤال: لم كل هذا التركيز عليهم؟
في هذا الصدد تقول ديانا مقلد “إعلاميًا ليس خافيًا القول إنه ومنذ سنوات هناك جهات سياسية أساسية في لبنان تحاول تجييش خطاب عدائي تجاه اللاجئ السوري، وهذا ينعكس في كثير من الأداء الإعلامي وفي التصريحات الصحفية.
وترى مقلد أن “تركيز أطراف سياسية مثل التيار الوطني الحر على مسألة اللاجئين، ومحاولة إيهام الرأي العام اللبناني أن مشاكل لبنان أو معظمها هو بسبب اللجوء السوري، هو خطاب انتهازي بات معروفًا وممجوجًا”.
لكن المفارقة أن الانتفاضة اللبنانية (التي انطلقت في 17 من تشرين الأول 2019) أثبتت هزال هذا الخطاب، بحسب مقلد، “خاصة حين نجد أن شخصية مثل الوزير جبران باسيل، الذي تصدر خطاب الكراهية، أكثر الشخصيات كراهية من قبل الرأي العام اللبناني، وهذا ليس أمرًا ثانويًا”.
وتؤكد مقلد أنه “بات معروفًا من يقف وراء هذا الخطاب، وأعني بشكل مباشر التيار العوني وبشكل خبيث مستتر حزب الله وحلفاءه”.
لكنها تشير في المقابل إلى “حركة وعي حقوقي شبابي باتت أكثر حضورًا ونشاطًا وجدية”.
ويؤكد مهند الحاج علي أن السوريين هم الهدف الأسهل سياسيًا، نظرًا لغياب أي منافح عنهم على الساحة المحلية والإقليمية أيضًا، مشيرًا إلى أنه عندما تُحال الأزمات والمشكلات البنيوية إلى طرف مثل اللاجئين السوريين، يُعفي ذلك الساسة من المسؤولية حيال ما آلت إليه الأوضاع في لبنان بحسب رأيه.
ظروف لبنان السياسية والاقتصادية والاجتماعية تجعل هذه الحالة مضاعفة، بحسب نبيل محمد، “نحن نتحدث عن بلد مدمر سياسيًا وفقير ومديون وتحكمه طبقات سياسية فاسدة وغير مخدم، وبالتالي من الطبيعي أن يرى المواطن أي مستهلك جديد إلى جانبه كوحش وغير مرحب به”.
بينما يرى سامر قطريب أن التركيز على اللاجئين السوريين هو “جزء من الحملة التي تقودها الأحزاب السياسية اليمينية المتطرفة في لبنان”، وهدفها التخلص من اللاجئين السوريين وترحيلهم، حتى لا تتكرر تجربتهم مع اللاجئين الفلسطينيين في السابق.
ويبلغ عدد اللاجئين السوريين في لبنان نحو 945 ألفًا، وفق تقديرات مفوضية اللاجئين في الأمم المتحدة، ويعتبر لبنان أكبر بلد مستضيف للاجئين بالنسبة لعدد سكانه.
ويعاني اللاجئون في لبنان من ظروف معيشية صعبة، واتهمت منظمة “العفو الدولية” السلطات اللبنانية بتعمدها الضغط على السوريين للعودة إلى بلدهم، عقب انتشار الحملات العنصرية واتخاذ سياسات تقييدية وفرض حظر التجول والمداهمة المتواصلة للمخيمات.
وأعلن الأمن العام اللبناني في آذار من عام 2019 عودة 172 ألف لاجئ إلى سوريا منذ كانون الأول من عام 2017. ووثقت المفوضية السامية للاجئين التابعة للأمم المتحدة عودة 14500 لاجئ من لبنان إلى سوريا خلال عام 2018، مع تحذيرها من عدم توفر مقومات عودتهم الآمنة بعد.
حدد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة العقوبة القانونية في حال ثبت استخدام “خطاب الكراهية” بثلاثة مستويات حسب نوع التعبير، الأول هو ما يتطلب متابعة جنائية، والثاني ما يتطلّب المتابعة عبر قضايا مدنية، والأخير هو التعبير الذي لا يتطلب متابعة قانونية إلا أنه يوضع في خانة الـ“مثير للقلق”.
إلا أن مثل هذا المعيار الدولي الفضفاض، تطلب وجود قوانين محلية تضبط خطاب الكراهية، وهو الأمر الذي غالبًا ما يتم توظيفه وفقًا لسياسة الدولة والنظام الحاكم.
وفي حين تنص “الاتفاقية الأمريكية لحقوق الإنسان” على أن “الدعوة إلى الكراهية لأسباب وطنية أو عرقية أو دينية هي جريمة جنائية” وتلزم القانون بذلك، لا تطلب “الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان” و”الميثاق الإفريقي لحقوق الإنسان وحقوق الشعوب” أن يحظر القانون خطاب الكراهية.
كما ترتبط العقوبات القانونية بنوع الخطاب الموجه عبر وسائل الإعلام (تشهير، تحريض، تمييز عنصري)، وذلك ما يزيد من تعقيد القوانين المتعلقة بمكافحة خطاب الكراهية، وزيادة الثغرات التي تقلل من فاعليتها.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
English version of the article
-
تابعنا على :