أربع حقائق يعيد تأكيدها تواتر القصف على مدينة إدلب وأريافها، والخروقات المتكررة لقرارات وقف إطلاق النار في منطقة خفض التصعيد الرابعة والأخيرة، المنصوص عليها في اتفاق آستانة عام 2017، بين روسيا وتركيا وإيران.
الحقيقة الأولى، حتمية الخيار العسكري، وانعدام أي فرصة للحل السياسي. والسبب لا يعود فقط لطبيعة نظام ديدنه الفتك والتنكيل للحفاظ على سلطته وامتيازاته، ودأب على إفشال كل المعالجات السياسية، حتى التي رعاها حليفه الروسي، بدءاً من بيان جنيف عام 2012، مروراً باتفاقات آستانة وسوتشي، ومروراً بنقض الهدن والتسويات التي أجريت في بعض المناطق، وانتهاءً بالتنصل من استحقاقات اللجنة الدستورية، وإنما أيضاً بسبب تنامي حاجة حكام طهران لتسعير المعارك هناك، في رهان على تسويق ما يعتبرونه انتصارات في سوريا، لتخفيف التداعيات السلبية على هيبتهم ونفوذهم جراء مقتل قاسم سليماني، وتصاعد التحركات الشعبية في ساحات لبنان والعراق، ربطاً بتقدم رغبة موسكو في طي سريع لصفحة الصراع السوري، متحسبة من أن تغدو – إن بقيت مفتوحة – عرضة للأخذ والرد، ولعودة التنافس العالمي والإقليمي عليها، وربطاً بموقف سلبي وعاجز للمجتمع الدولي ومنظمته الأممية، اللذين – كالعادة – لم ولن يقدما سوى واجب الحد الأدنى تجاه ما يجري في إدلب، إن بتدبيج إدانات لفظية للعنف المفرط، وإن بدعوات باهتة لضبط النفس ووقف القتال.
الحقيقة الثانية، انكشاف المصالح الأنانية لحكومة أنقرة تجاه الشعب السوري وثورته، وجوهرها التدخل والتأثير في مجريات الصراع الدائر، لتعزيز حضورها ونفوذها الإقليميين، بما في ذلك دعم مشروعها الإسلاموي ومد انتشاره. ولا تغير هذه الحقيقة – بل تؤكدها – المواقف المتناقضة للسياسة التركية، وسرعة تبديل خياراتها وتحالفاتها، بحثاً عن فرص المكاسب والأرباح.
فالسلطات التركية التي طالبت بالحسم العسكري وإسقاط النظام السوري، ورفعت شعارات التحدي ضد روسيا، هي ذاتها التي شجعت على ما سُمي الحل التوافقي السياسي، وساهمت في بيانات واجتماعات آستانة وسوتشي، وضغطت على جماعات المعارضة السورية للقبول والمشاركة فيها، كما هي نفسها التي تخلت عن دورها الضامن، وخذلت السوريين في غير مكان، وتركتهم فريسة للفتك والتنكيل، وقايضت ذلك بمنطقة آمنة، غرضها توسيع تمددها العسكري، واستيعاب إعادة اللاجئين السوريين، والأهم تفكيك الحضور الكردي سياسياً واجتماعياً.
كما أن حكومة أنقرة التي آوت عناصر «الجيش الحر» وبدأت في تسليحهم وتدريبهم، هي ذاتها التي حاصرتهم في معسكر خاص، ومنعتهم من بلورة حالة عسكرية واعدة، وفي المقابل شجعت نشوء جماعات مسلحة بوجه إسلاموي، وأمدتهم بالسلاح، بما في ذلك جماعة «النصرة» المحسوبة على تنظيم «القاعدة»، وحولتهم إلى أدوات طيعة بيدها، لتتمكن بهم من خوض حروبها في شمال سوريا وشرقها، ومؤخراً من إرسال بعضهم كمرتزقة للقتال إلى جانب قوات حكومة السراج في ليبيا.
والأسوأ أن السلطات التركية التي فتحت الأبواب لاحتواء أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين، هي نفسها التي فتحت النار وقتلت مئات المدنيين الفارين منهم، ومنعت دخولهم أراضيها. وهي ذاتها التي استخدمت ولا تزال ورقة اللاجئين لابتزاز الغرب مالياً، وخصوصاً الدول الأوروبية، كما تستخدمهم اليوم لمنازعة الوجود المدني الكردي، من خلال التواطؤ مع «جبهة النصرة» لسد المنافذ أمام الهاربين من إدلب، وتوجيههم قسراً نحو مناطق سيطرتها في شرق الفرات.
الحقيقة الثالثة، شدة الخطر الذي مثلته وتمثله جبهة «فتح الشام» وغيرها من المنظمات الإسلاموية المتطرفة على مصالح السوريين وحقوقهم، وتحديداً ما خلفته سيطرتها على إدلب، ليس فقط في تأليب دول العالم ضد هذه المدينة ودفعهم للتواطؤ، أو على الأقل للصمت وغض النظر عن العنف الذي يمارس هناك، وإنما أيضاً في حجب قسم كبير من المعونات الإغاثية عن أهلها، هذا عداكم عن دورها المدمر في إرهاب الناس والاستهتار بحيواتهم ومعاناتهم، فهي لم تتوانَ عن اعتقال أو اغتيال الناشطين والمعارضين الإعلاميين، وإطلاق الرصاص على أي محاولة للمدنيين من سكان إدلب لتجاوز المعابر أو الشريط الحدودي، بغرض دفعهم نحو ما سُميت «منطقة آمنة»، أو قسرهم على البقاء، وتحويلهم إلى دروع بشرية تخوض بهم حرباً لم يعد لهم فيها لا ناقة ولا جمل.
الحقيقة الرابعة، أن الخيار العسكري في إدلب سوف يستمر ويطغى، ويتخذ أشكالاً أكثر حدة نحو الحسم، من دون اهتمام بالتكلفة الباهظة التي سيتكبدها أهل هذه المدينة واللاجئون إليها، بدليل طابع القصف الجوي والمدفعي من النظام وحلفائه، واستخدام مختلف صنوف الأسلحة بما فيها المحرمة دولياً، بغرض قتل المدنيين وإرهابهم ودفعهم للاستسلام والرحيل، وتوسل تدمير منازلهم والبنية التحتية، بما في ذلك استهداف المدارس والمنشآت الطبية ودور العبادة والأسواق الشعبية، وحتى تجمعات النازحين في مخيماتهم البائسة، كما قوافل النساء والأطفال والشيوخ الهاربين من أتون العنف.
والحال، تستعر المعارك في إدلب، ويبقى الجرح السوري مفتوحاً ضمن لعبة تنازع دولي وإقليمي على النفوذ والهيمنة، من دون اكتراث بأحوال هذا الشعب المنكوب وتضحياته ومصيره. وإذ تعترف الأمم المتحدة بأن ما يحصل في سوريا هو من أكبر الكوارث التي واجهتها خلال تاريخها، تفيد إحصاءاتها بأن عدد النازحين من إدلب وأريافها وصل إلى نحو 284 ألف شخص، خلال أسابيع التصعيد والقصف الأخيرة، بمن في ذلك 140 ألف طفل على الأقل، يعيشون الآن في مخيمات متواضعة أنشئت على عجل، أو في الحقول والبساتين المفتوحة على ما تحمله الطائرات من براميل متفجرة، بينما تفيد تقاريرها بأنه ليس من صراع دامٍ عرف هذا القدر من العنف المنفلت المثقل بالضحايا والخراب والمشردين كالصراع السوري، فإلى جانب مئات آلاف القتلى، ومثلهم من المعتقلين والمغيبين قسرياً، وأضعافهم من الجرحى والمشوهين، وأكثر من عشرة ملايين نازح ومهجر ولاجئ، ثمة إمعان في تخريب حيوات السوريين وانتهاك حقوقهم، ليغدو في مهب الريح كل ما أنجزوه خلال العقود الماضية: الدولة ومؤسساتها، واجتماعهم الوطني، والبنية الاقتصادية، والتعايش ونبذ الاحتقانات الأهلية والطائفية، والأمن، وشروط العيش والحياة. ولتخلص هذه التقارير إلى أنه ليس من لحظة مفصلية تلح فيها حاجة السوريين للدعم والمساندة ولإنقاذ أرواحهم واجتماعهم ومستقبلهم، أكثر من اللحظة الراهنة.