حباء شحادة | زينب مصري | صالح ملص
يذكر أحمد عبد الرزاق أنه دخل المدرسة يومًا، لكنه لم يتمكن من استرجاع ما مر معه فيها، خلال لقاء مع عنب بلدي في مخيم معردبسة شرقي إدلب. تفاصيل تلك الحياة التي انقضت، لم تعد مهمة للفتى ذي الـ12 عامًا، فهو منذ أن توفي والده يعمل مع أخيه الكبير على إعالة أسرته.
أما عارف الأمين، البالغ من العمر 13 عامًا، فلم ينسَ رغبته بالتعلم، رغم مداومته على العمل في البناء لتأمين قوت أسرته النازحة في ذات المخيم الذي يقطنه أحمد، بينما يردد أمنيته “أريد تعلم القراءة والكتابة”.
لا ترتبط قصتا أحمد وعارف بكونهما نازحين فقط، ولا يتشاركان همومًا فريدة من نوعها، إذ يوجد أكثر من مليوني طفل سوري خارج المدارس، وفق منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف)، وأكثر من مليون على الطريق الذي اضطر الطفلان إلى سلوكه.
الصواريخ التي ألقاها ويلقيها النظام السوري وحليفه الروسي على محافظة إدلب، وما خلفته من موجات النزوح، هي أحد المؤثرات السلبية على قطاع التعليم، يضاف إليها تراجع المانحين عن الدعم، لمخاوف من تصنيفات بعض الجهات المسيطرة في الشمال السوري.
تبحث عنب بلدي في هذا الملف حال القطاع التعليمي في إدلب واحتياجاته، وآثار تراجعه على مئات آلاف الطلاب والمعلمين، مستعينة بآراء مختصين وشهادات مسؤولين.
تسرب ونزوح وعوائق لوجستية
حال التعليم “مروع” في إدلب
قاطعت الصواريخ الفراغية درس المعلمة فيحاء الشواش، لطلابها في الصف الخامس الابتدائي في بلدة حاس بريف إدلب الجنوبي، لتترك 20 ضحية من الأطفال، وجيلًا يخشى الاقتراب من المدارس.
نجت فيحاء بـ “أعجوبة” من “مجزرة الأقلام”، التي حصلت في تشرين الثاني من عام 2016، وفق ما قالته لعنب بلدي، لكن ما حصل ذلك اليوم أنهى مسيرة 12 عامًا قضتها في التدريس، بعد تقديم شهادتها على ما حصل لمنابر إعلامية ومنظمات حقوقية.
استهداف وتخريب المنشآت التعليمية لم يقتصر على “مجزرة الأقلام” فقط، إذ استُخدمت تلك المنشآت في الشمال السوري لأغراض حربية، وكانت أهدافًا عسكرية، شهدت استهداف الأطفال بدل تنشئتهم.
ذلك ما دفع لجنة التحقیق الدولیة المستقلة حول حقوق الأطفال إلى وصف وضع التعليم في سوريا بالـ”مروع”، وفقًا لتقریرها الصادر في 16 من كانون الثاني الحالي، والذي ذكر أن “جميع أطراف النزاع حرموا الأطفال من الحق في التعليم”.
فبحسب “يونيسف”، فإن أكثر من ثلث الأطفال السوريين خارج مدارسهم، وأكثر من 40% من المدارس غير صالحة للاستخدام.
اجتمع الخطر الأمني والاستهداف، مع الفقر والنزوح، ونقص الدعم والاهتمام الدولييين، وأدت تلك الأسباب إلى تراجع القطاع التعليمي وابتعاد الأطفال عن المدارس وتقليص فرصهم التعويضية، مع ضياع الكوادر التعليمية بين واجب تأدية “الأمانة” وضرورة تأمين لقمة العيش.
قصة مصورة
عوائق وحاجات بلا تلبية
أوضاع “كارثية” رسمت ملامح العام الدراسي الحالي في إدلب، حسب وصف مدير دائرة الإعلام في مديرية التربية، مصطفى الحاج علي، إذ ترافق شح الدعم مع الحملات العسكرية المتتابعة للنظام السوري وحليفته روسيا، التي دفعت مئات الآلاف للنزوح وسط ظروف معيشية ومناخية قاسية.
استنزفت موارد العملية التعليمية، حسبما قال الحاج علي لعنب بلدي، مشيرًا إلى أن أثر الأوضاع الأمنية والمادية أرهق المناطق المتعرضة للقصف والمناطق المستقبلة للنازحين على حد سواء.
ومع غياب الإحصائيات الدقيقة لأعداد الطلبة المتسربين، “لأن الوضع لا يسمح بإجراء إحصائية”، بسبب النزوح لأماكن مجهولة وبعيدة لا تستطيع المديرية الوصول إليها، تصل التقديرات إلى نحو 114 ألف طفل متسرب منذ بداية العام، مع توقع ارتفاع العدد إلى 140 ألفًا، بسبب النزوح نتيجة الحملة العسكرية، وفق الحاج علي.
وقيّمت مبادرة “REACH” الوضع الإنساني في شمال غربي سوريا في أيلول عام 2019، بناء على مسحها 1051 منطقة، إلى أن التعليم من الأولويات الثلاث الأولى في المنطقة، بعد الرعاية الصحية والأمن الغذائي.
واعتبرت أن 359 منطقة، أي 34% من المناطق المشمولة بالدراسة، حاجتها الأولى للتعليم، بينما عانى سكان أكثر من نصف المناطق من جملة من العوائق التي وقفت حائلًا بين الأطفال وحقهم بالتعليم.
الخوف عائق بين الطالب والمدرسة
لم تحترم صواريخ النظام السوري حرمة المدارس ولم تقف عن مخالفتها للقانون الدولي، الذي يمنع استهداف المنشآت المدنية، ما أدى إلى فقدان البيئة الآمنة والمناسبة للتعليم نتيجة الصراع و القصف، وتعرضت منذ بداية الحرب في سوريا أكثر من سبعة آلاف مدرسة للدمار، وفقًا لتقديرات “يونيسف”.
وبحسب تقرير “منسقو الاستجابة” لحال شمال غربي سوريا، الذي صدر في 27 كانون الأول 2019، فقد استُهدفت 143 منشأة تعليمية خلال عام 2019.
“خلق قصف النظام السوري مناطق ريف إدلب رد فعل لدى الطلاب، وهو الخوف من الموت أو الإصابة، فبمجرد أن يسمع الطفل صوت الطائرة يخرج من المدرسة بشكل لا إرادي”، حسبما قالت المعلمة السابقة فيحاء شواش لعنب بلدي.
وفي 48% من حالات حرمان الأطفال من التعليم، وفقًا لمبادرة “REACH”، كان بعد المنشآت التعليمية هو العائق الذي ترافق مع إحساس 17% من الأهل بخطر الطريق الواصل إليها، وفي 18% من الحالات كان السبب هو دمار تلك المنشآت.
نقص المواد الدراسية
لم تمتلك محافظة إدلب ما يكفي لتغطية 30% من حاجات الطلاب قبل بدء موجة النزوح الأخيرة، وفق تقديرات مشرف مجمع إدلب التربوي، عبد الله العبسي.
أدى ذلك النقص إلى 49% من حالات التوقف عن الحصول على التعليم في إدلب، وفقًا لتقديرات مبادرة “REACH”.
وتفتقر المدارس للموارد اللوجستية والمحروقات والمدافئ والمقاعد والأدوات التعليمية بأنواعها، وكذلك الكتب المدرسية التي يعاد تدويرها عامًا تلو الآخر بين الطلبة، ما تركها بحال سيئ، حسبما ذكر العبسي.
الفقر والنزوح يزيدان أزمات التعليم في الشمال السوري
وصل عدد النازحين جراء الحملة العسكرية الأخيرة على بلدات ريف إدلب الجنوبي إلى أكثر من 350 ألفًا منذ بداية كانون الأول 2019، وفق تقديرات مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (أوتشا).
وأثرت موجات النزوح على نحو 34 ألف طالب بعمر الدراسة، أضيفت أعدادهم إلى 150 ألفًا كانوا من الأشد حاجة للمساعدات التعليمية والدعم النفسي الاجتماعي، جراء النزوح، حسب تقييمات “أوتشا” في أيلول من عام 2019.
وكان لفصل الشتاء دور في زيادة مشاكل التعليم للأطفال، خاصة في المخيمات التي قل الدوام فيها بنسبة 30%، مع ما تعانيه المخيمات المكتظة من “ضعف شديد” في البنية التعليمية، وفق تقرير “منسقو الاستجابة” الصادر في أيلول عام 2019.
فمن أصل أكثر من 1153 مخيمًا في الشمال السوري، تضم أكثر من 1.2 مليون نسمة في مناطق شمال غربي سوريا، لا يتجاوز عدد المدارس ضمن تلك المخيمات أكثر من 49 مدرسة، معظمها لا تلبي الاحتياجات التعليمية.
ووفقًا لتقرير لجنة تقصي الحقائق التابعة للأمم المتحدة، فإن اكتظاظ الصفوف الدراسية في إدلب، وصل إلى حد تزاحم 120 طالبًا في شعبة واحدة في بعض الحالات.
وزاد على آثار النزوح تلك تشكُّل مدارس بلا مقومات لتعويض الطلاب الموجودين في المخيمات العشوائية، التي انتشرت بعد حملات النزوح الكبيرة، والتي تفتقر إلى معظم المقومات اللازمة للعملية التعليمية، وأهمها البناء الذي يحميها من عوامل الجو والمناخ.
ومع انتشار الفقر في سوريا عمومًا، إذ بلغت نسبة الواقعين تحت خط الفقر 83% وفق تقديرات الأمم المتحدة، فإن العديد من الأسر اتجهت نحو الاعتماد على أطفالها بالعمل لتأمين لقمة العيش، وتخليهم عن الفرص التعليمية الصعبة المنال.
كما أن الحصول على التعليم في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام السوري لا يضمن الحصول على شهادة معترف بها على نطاق واسع، ووفقًا لتقرير منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو)، لا تُمنح تلك الشهادات سوى في المدارس الحكومية داخل سوريا.
ويواجه الأطفال في مناطق سيطرة المعارضة مخاطر عند سعيهم لأداء الامتحانات في مناطق سيطرة النظام، منها الكشف عن أسماء أسرهم للسلطات الحكومية، والتهديدات لأمنهم الشخصي عند نقاط التفتيش، وانعدام الأمن في المناطق الواقعة بين مناطق السيطرة.
الكادر التعليمي في إدلب
أمام تحدي “الواجب” و”الواقع”
انطلق العام الدراسي الجديد مع إيقاف الاتحاد الأوروبي دعمه المقدم عبر منظمة “كومينكس” إلى مديرية التربية في إدلب، الذي كان يغطي 65% من رواتب المعلمين، البالغ عددهم أكثر من سبعة آلاف معلم.
وتحدث مدير المكتب الإعلامي في مديرية تربية إدلب، مصطفى الحاج علي، في أيلول 2019، لعنب بلدي، أن الدعم توقف من قسم الاتحاد الأوروبي في منظمة “كومينكس”، وهي المسؤولة عن إيصال منحة التعليم.
وكان المدرس يتقاضى راتبًا شهريًا من “مديرية التربية والتعليم” في إدلب يقدر بـ120 دولارًا بعقد محدد بثمانية أشهر، ورغم غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار التي فرضت الحاجة إلى دخل أعلى لتأمين احتياجات عائلات المعلمين في المنطقة، كان المدرسون مستمرين بعملهم، إلى أن توقف الدخل كليًا.
تسبب نقص الكادر التعليمي بأكبر نسبة من أسباب حرمان الأطفال من الدراسة، وفق دراسة لمبادرة “REACH”، إذ افتقدت 50% من المناطق المشمولة بالدراسة للطاقم المؤهل الكافي.
تمويل إنساني.. لا يشمل المعلمين
حاولت عنب بلدي التواصل مع المفوضية الأوروبية ومع منظمة “كومينكس” للحصول على رد حول أسباب قطع الدعم عن المدرسين، الذي حذرت مديرية التربية من تهديده بتوقف العملية التعليمية في إدلب، لكنها لم تحصل على رد.
وأشار خبير إنساني مختص بشؤون الأمم المتحدة (تحفظ على نشر اسمه) إلى أن معايير التمويل الدولية تقوم على نوعين، دعم إنساني “يستمر بكل الأحول ولكل الناس، وبغض النظر عن السلطة القائمة”، ودعم للاستقرار، “يقوم على دعم الكيان الإداري الموجود أمام السكان لمنحه الشرعية”.
وبرأي الخبير الإنساني فإن سبب قطع الدعم يتعلق بالرغبة بالابتعاد عن دعم السلطة القائمة في إدلب، وهي “حكومة الإنقاذ” المتهمة بالتبعية لـ”هيئة تحرير الشام” المصنفة بـ”الإرهابية”.
ورغم انفصال مديرية التربية في إدلب عن “الحكومة”، إلا أنها لم تفلح، حسبما قال الخبير، بإقناع المانحين بدعمها، وبذلت المديرية جهودها لإقناع المانحين، وفق مصطفى الحاج علي، مدير دائرة الإعلام بتربية إدلب، من خلال مراسلة المفوضية الأوروبية، ومن خلال متابعة النشر عبر معرفاتها الرسمية، التي يراقبها المانحون.
كما تتعاون المديرية مع “يونيسف” لتوثيق انتهاكات النظام السوري وحليفته روسيا بحق القطاع التعليمي، واستمرت الرسائل واللقاءات مع المنظمات الدولية، وقدمت المديرية خلالها الوثائق والخطط المتوفرة للتعامل مع احتياج القطاع، إلا أنها لم تتمكن بعد من استعادة الدعم، وفق الحاج علي.
أما الأمم المتحدة فإن دعمها الإنساني “مستمر”، حسبما قال الخبير الإنساني، ولكنه لا يشمل رواتب المدرسين، بل يدعم عملية التعليم من الأمور اللوجستية والوقود والكتب والمواد التعليمية وإنشاء المدارس والمرافق، عن طريق مشاريع المنظمات الشريكة العاملة على الأرض.
وقيّم مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية التابع للأمم المتحدة (أوتشا)، حاجة شمال غربي سوريا إلى برامج التعليم التعويضي وبرامج التعلم الذاتي وتوفير لوازم التعليم، مع الحاجة إلى إصلاح البنية التحتية القائمة في المدارس وتوفير وقود التدفئة ومستلزمات فصل الشتاء والكتب المدرسية والمواد التعليمية.
إلا أن الأمم المتحدة لم تتلقَّ أكثر من 18% من التمويل المطلوب لقطاع التعليم، البالغ تسعة ملايين دولار مطلوبة لقطاع التعليم، مع تراجع تصنيف أولوية القطاع أمام الحاجات الرئيسة للنازحين الجدد، وهي تأمين المخيمات والمواد غير الغذائية والملجأ والطعام والمساعدات النقدية.
لا طفولة دون تعليم..
آثار نفسية بالغة على الأطفال المتسربين من المدارس
تخلف الأزمات والحروب ندوبًا نفسية واجتماعية بالغة على نفوس الأطفال الهشة، وغياب التعليم يزيد من آثارها وتبعاتها المستقبلية.
وتتنوع المظاهر النفسية لانقطاع التعليم عند الأطفال وتأثيرها على المستوى الجسدي، والانفعالي، والسلوكي، حسبما قالت الاختصاصية النفسية أمنية ترك لعنب بلدي، إذ إن أبرز المكتسبات النفسية التي يحصل عليها الطفل في أثناء المرحلة التعليمية، هي تنمية التفكير والقدرة على الاعتماد على الذات، من خلال حل بعض المشكلات التي يواجهها في روتينه اليومي.
ويسهل التعليم على الطفل إقامة شبكة علاقات مع أقرانه ضمن محيطه الاجتماعي، ويعزز ثقته بالنفس كلَّما انتقل إلى مستوى تعليمي أعلى، ما يتيح له الفرصة للشعور بأنه ذو قيمة وصاحب قدرات إيجابية.
أوجاع طويلة الأمد
هناك عدة ثغرات سيتركها تراجع التعليم في إدلب في نفسية الطفل المتعلم، أهمها قلة مستوى دافعيته للتعلم، وانعدام انتمائه للمؤسسات التعليمية، حسب رأي الاختصاصية النفسية أمنية ترك.
وسيشعر الطفل بالحرمان نتيجة حبه الطبيعي للتملك، وبذلك سيفقد شعوره تجاه أدواته المدرسية من القرطاسية إلى مكانه المخصص للدراسة، وإلى كل التفاصيل المتعلقة بالتعليم “التي لا يشعر بقيمتها إلا بعد فقدانها”.
وعن التبعات النفسية المباشرة التي ستؤثر في نفسية الطفل المتعلم، تُؤكد الاختصاصية النفسية، أن هناك ما يُسمى بـ”آثار ما بعد الصدمة”، تُظهر سلوكيات من نوبات القلق المعرفي والغضب الشديدين، كنتيجة شعوره بالظلم والحرمان من حق أساسي له.
بالإضافة إلى وجود خلل بالمفاهيم المعرفية لديه، خاصة تلك المتعلقة بالحقوق والواجبات، وتشير الترك إلى أن العملية التعليمية المدرسية تصنع جوًا من الاحتكاك الاجتماعي، وحين تصاب هذه العملية بانقطاعات طويلة، سيتولد عند الطفل على المدى البعيد انعزال وانسحاب وارتباك من تجمعات الناس الكبيرة.
كما يؤدي اقتران انقطاع التعليم مع حالة الحرب والدمار التي يمر بها أطفال إدلب إلى توليد كره وعدائية ممن صنعوا هذه الحرب من أبناء مجتمعهم، الأمر الذي سيحفز لديهم غالبًا الرغبة بالانتقام دون وعي منهم بخطورة هذا الشعور، بحسب ما قالته الاختصاصية النفسية.
أهمية الدعم النفسي
وفقًا لدراسة أجرتها “يونسكو“، فإن 13% من الأطفال النازحين في سوريا بحاجة إلى دعم نفسي اجتماعي متخصص في الفصل الدراسي، ويعد التعرف إلى صدمات الأطفال النفسية ومعالجتها أمرًا معقدًا يتطلب تخصصًا من المدرّسين.
ويمكن للمعلمين تقديم حلول للحالات الأقل حدة من خلال ممارسات التعليم الروتينية التي تركز على تعزيز النمو وبناء مهارات الأفراد، إلا أن معظمهم لا يحصلون على التطوير المهني المستمر ولا يتلقون التدريب بمجال الصحة العقلية والدعم النفسي الاجتماعي. ففي سوريا لم يتلقَّ 73% من المعلمين المشمولين بدراسة “يونسكو” ذلك التدريب.
وقدرت وكالة يونيسف، في آب 2019، حاجة واحد من كل ثمانية أطفال في كل صف مدرسي للدعم النفسي الاجتماعي.
وأشارت الوكالة في تقرير آخر، إلى أن سوريا تضم أعدادًا متزايدة من الأطفال ممن لم يسجلوا أبدًا في المدارس، ما يفرض عليهم مصاعب في التسجيل والتكيف في التعليم الرسمي مع كبر سنهم، ما يؤثر على تطورهم وفرصهم طويلة الأمد، مع تسرب ثلث الأطفال المسجلين في المدارس تقريبًا قبل إنهاء المرحلة التعليمية الابتدائية.
وبحسب تقرير أعدته “يونسكو“، تكمن أهمية البرامج التعليمية للطلاب في أوقات الحروب وأزمات النزاعات المسلحة في السماح للأطفال بالتعبير عن مخاوفهم الذاتية وهواجسهم، والتخلص من المشاعر المكبوتة المؤلمة، والتزود بآمال جديدة للمستقبل.
إضافة إلى اكتساب المعرفة وآليات لاستعادة حياتهم اليومية، والتخطيط لمستقبلهم ولضمان تماسك عائلاتهم، وتعزيز “المرونة الداخلية” لديهم لمواجهة الضغوطات الخارجية من دمار وفقر واستيعابها والقدرة على التكيف معها والتغلب عليها.
كما يعد استخدام التجمعات التعليمية مهمًا لتشارك الآلام، وتبادل الأفكار والنصائح والتضامن والدعم النفسي والتآزر، من أجل الصمود والتغلب على التحديات.
هل تسد جزءًا من الحاجات؟
مبادرات وحملات لإنقاذ التعليم
عمل معلمون وناشطون في شمال غربي سوريا على مواجهة أزمة القطاع التعليمي، بإطلاق مبادرات وأنشطة هدفت إلى تسليط الضوء على الاحتياجات التعليمية، والمشاركة بالحل، وإن كان بشكل يسير.
وحركت بعض تلك الحملات ردود فعل دولية، واستقطبت بعض الدعم لمشاريع صغيرة، بينما لا يزال بعض المعلمين في إدلب يقدمون خدماتهم بشكل مجاني للأطفال، في مبادرات فردية لإنقاذ مستقبل الأطفال المتسربين من التعليم.
حملات للتوعية بوضع قطاع التعليم
بدأت مجموعة من ناشطات المجتمع المدني في محافظة إدلب حملة بعنوان “لاتكسروا قلمي” نصرة للعملية التعليمية في إدلب وريفها، مع انطلاق العام الدراسي وإيقاف الدعم الأوروبي في أيلول 2019.
شملت الحملة وقفات احتجاجية حذرت من الآثار السلبية لتسرب الأطفال من التعليم، كاستغلالهم في عمليات التجنيد العسكرية وعمالتهم، بالإضافة إلى زيادة الجريمة وحدوث زواج مبكر للجنسين.
تبع تلك الحملة عدد من الوقفات الاحتجاجية والمظاهرات التي رفعت شعارات متنوعة، بغية إيصال التحذيرات إلى المانحين.
وأطلق قرابة 50 إعلاميًا حملة إعلامية واسعة النطاق تحت عنوان “قلمي حلمي”، لتسليط الضوء على الواقع التعليمي في الشمال السوري، في تشرين الأول 2019، تضمنت نشر إحصائيات ومعلومات عن أثر قطع التعليم على الطلاب في شمال غربي سوريا.
تمكنت الحملة، التي أدارها “منتدى الإعلاميين السوريين”، من “الضغط” على المنظمات الداعمة للاهتمام أكثر بالتعليم، واستطاعت تحقيق إعادة جزئية للمبلغ المجمد من “كومينكس” ضمن مشروع “مناهل” وأوجدت دعمًا لقسم من المدارس في ريفي إدلب وحلب، حسبما قال عضو المنتدى إبراهيم الخطيب، لعنب بلدي.
وأضاف الخطيب أن الحملة لم تحقق كامل أهدافها بسبب كبر الاحتياجات، مشيرًا إلى أن العمل على الحملة ما زال مستمرًا من خلال إنجاز بعض مقاطع الفيديو والعروض الترويجية والتصاميم، لكن ليس بنفس الزخم، وذلك لتركيز العاملين على الحملة اهتمامهم على حملة “إدلب تحت النار” التي أطلقوها تزامنًا مع الحملة العسكرية المكثفة الأخيرة على ريف إدلب.
مبادرات أهلية وتطوع
تابعت أعداد من المدرسين العمل بشكل “تطوعي” واجتمعت جهود ناشطين لإنشاء “صناديق دعم” تهدف إلى تقديم رواتب “رمزية” للمدرسين، للتعبير عن تقدير الأهالي وحرصهم على استمرار العملية التعليمية، ولدعوة الأطراف الداعمة للاهتمام بالمنطقة ومستقبل الأطفال.
من هؤلاء المعلمين المدير السابق لثانوية المعرفة، في بلدة معرشورين بريف إدلب الجنوبي، قتيبة الهاروش، الذي دفعه إيمانه بأهمية رسالة التعليم لمتابعة جهوده بالتدريس بعد معاناته من صعوبات النزوح، واستقراره في بلدة قاح شمالي إدلب.
وقال الهاروش لعنب بلدي، وهو مدرّس لغة عربية، إن قسمًا كبيرًا من المعلمين يعيش اليوم وفق قاعدة “الله ساترها”، فما زالوا يجدون من يستدينون منه، كما أن قسمًا آخر منهم يعمل بعد دوامه في المدرسة، بأعمال أخرى تؤمّن موارد مالية بسيطة تعينهم قليلًا على المصاريف والنفقات.
بينما يستند بعض منهم إلى أفراد من عوائلهم ليعينوهم، “على أمل أن يُشق باب فرج في معاناتهم”، وفق الهاروش واصفًا حالهم بـ”الجنود المكافحين رغم كثرة الأعداء”.
ورغم مبادرة الهاروش وغيره، لا يمكن لجميع المعلمين السير في ذات الطريق بسبب الحاجة في سد احتياجات العائلة في بعض الأحيان، إلى مبالغ تفوق ما يحصل عليه بعضهم بأعمال جزئية.
لا تغير المبادرات الجماعية ولا الفردية من حال القطاع التعليمي في إدلب، بل تعد إبرًا مسكنة لآلام ستزيد حدتها مع الأيام، في حال لم تُتخذ إجراءات على نطاق حكومي ومنظماتي عالي المستوى، لإنقاذ 140 ألف طفل آخرين، سيُحرمون من التعليم في إدلب خلال العام الحالي، وفق تقديرات مديرية التربية.