سوريا.. الصورة
نبيل محمد
هكذا هي المأسأة، تجد أماكن بروزها ونيلها للجوائز، تتصدر حكاياتها المشهد، حكايات تروى بالصوة، وبالصرخة الموثقة بأحدث آلات التسجيل والتصوير، المأساة دائمًا بطلة في هذا الحيز، يتقن أبطالها المأساويون الضحايا من الجرحى والجوعى، القتلى والمحاصرين، المحرومين، التعبير أمام الكاميرات. هم لا يدركون تمامًا أن وجوههم تلك، وأصابعهم ما اكتمل منها وما نقص، ستكون ضمن قائمة صور منوعة من العالم، مرشحة لنيل الجوائز، تعرضها وكالات الأنباء في بانوراما لمنجز عدساتها، في جولات مصوريها ومراسليها حول العالم.
هنا لاعبة كرة القدم الأمريكية ميغان رابينو تحيي جمهورها بعد تسجيلها الهدف الأول على فرنسا في ربع نهائي كأس العالم للسيدات، وهناك باحث ينقذ المرجان من مرض فقدان الأنسجة المرجانية الصخرية في جزر فيرجن، وبعده ميلانا ترامب تقبل جوست ترودو في صور جمعت العائلتين على هامش قمة السبع (الصورة خالية من الدموع هي فقط قبلة)، الأمير هاري ينظر إلى طفله الهادئ في يد زوجته، قرود ترقص، أدغال، ألعاب نارية، لقطات رياضية نادرة، ولا يخلو الأمر من مآسي حرائق الغابات، وحريق كنيسة نوتردام، ومن شرطة تلاحق ناشطين هنا وهناك، وجثث مرمية على حدود بلدين. المأساة ليست حقًا حصريًا لأحد، لكن لا شيء آخر يمكن التقاطه في سوريا سوى تفاصيل هذه المأساة الفاقعة بشدة وضوحها وقسوتها، واستمرارها صورًا ورصاصًا لا أكثر.
عشرات الصور كانت حصيلة أفضل ما أنجزته وكالة رويترز خلال عام 2019، بينها ثلاث صور سورية، إحداها لطفل سوري يختصر حربًا بنظرته وهيئته، ويبرز بين مجموعة من النساء المنقبات بالأسود، والخارجات من الباغوز، حيث كانت المعركة الأخيرة ضد تنظيم “داعش” في سوريا. لربما الحديث عن الصورة التي التقطها المصور السوري رودي سعيد يفقدها قتامتها، تلك القتامة الفنية وفق علم الصورة والتقنيات البصرية والعرض والمراسلة. الصورتان الأخريان عسكريتان بشدة، التقطهما المصور السوري خليل عشاوي، تواكبان العملية العسكرية التي بدأتها تركيا في شمال شرقي سوريا، إذ تبرز الأولى جريحًا عسكريًا من فصيل “الجيش الوطني” المقاتل بدعم تركي، والثانية تبرز مشهدًا أكثر اتساعًا لما يبدو أنه جبهة، يظهر فيها حوالي عشرة مقاتلين على تلة بينهم من يصوّب بندقيته ومن يستعد للتصويب ومن يقفز ومين يهرب ربما، بالقرب منهم دبابة ومنزل صغير يبدو أنه لم يُسكن بعد، إذا افترضنا أن بيتًا على الهيكل، دون نوافذ وأبواب محكمة الإغلاق، هو بيت غير مؤهل للسكن في سوريا.
في عام 2018 لم يختلف المشهد كثيرًا، حيث نالت صور سورية مشابهة ترتيبًا متقدمًا في أفضل صور العام في الوكالة، اشتهرت بينها صورة لطفل حمله أهله في حقيبة يبرز منها رأسه.. حقيبة من بين مجموعة من الحقائب التي جمع الأهل (ربما ليس الأهل فاحتمال وجود يتامى في تلك الحالة أكبر من احتمال وجود طفل مع أهله الأحياء) فيها كل ما يمكن حمله من بيوتهم المدمرة في الغوطة الشرقية، قبل نزوحهم إلى الشمال، في الشمال حيث وصلوا، من المفترض أنهم عانوا من قصص النزوح نفسها، إن لم يعانوا من قصص حرب وقصف مشابهة أو أكثر شدة من الغوطة، هناك أيضًا يمكن أن توجد كاميرا تلتقط مشهدًا آخر للطفل ذاته إن خرج من داخل الحقيبة، لتجد مكانًا يقدّر قيمة الصورة، ومعنى المأساة في الصورة.
صورة قد يقول قائل إنها لا تختصر المأساة، هي لقطات على جبهات الحروب وعلى أطراف المخيمات، ربما هي كذلك، وربما لا تختصر أي كاميرا مأساة كتلك التي في بلاد يمكن أن تُهجَّر آلاف العائلات فيها عشرات المرات داخل البلاد ذاتها لا خارجها. صورة المأساة أكبر بالتأكيد، إن كل مرآة تلتقط وجهًا سوريًا يستيقظ صباحًا لاسقبال يوم جديد داخل سوريا هي مأساة، إن كل يوم جديد هو مأساة، وللكاميرات أن تلتقط ما تشاء.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :