منصور العمري
المسامحة والغفران والعفو والنسيان والمصالحة والتصالح، مفردات ترد في خطابات سياسيين وورشات عمل ودعوات أممية ودولية في سياق حل الأزمة في سوريا، فهل هناك إمكانية لتحقيق هذه المطالب والدعوات، وما المطلوب من السوريين فعلًا؟
أولًا: يجب أن نعي أن هذه المفردات تعبر عن وسيلة لا هدف في الحالة السورية، فمن يطالب بها، يتحدث عنها كخطوة على طريق وقف النزيف السوري المستمر، وبناء مجتمع معافى ينهي الممارسات والجرائم التي سببت هذا النزيف. لكن إن تحولت المسامحة إلى هدف، ستصبح فعلًا مجانيًا، وتتجرد من غايتها في حماية السوريين، وتصبح المسامحة انقلابًا على غرضها، لتسهم في تثبيت مرتكبي الجرائم واستمرار جرائمهم، أي إن الأفعال السابقة للمرتكبين تصبح تهديدًا مستقبليًا للضحايا بما يمنع المسامحة الفعلية خوفًا من المستقبل.
بالتأكيد، المسامحة أمر مهم وخطوة في طريق بناء مجتمع معافى، لكن المسامحة الحقيقية التي نتحدث عنها هنا، أبعد ما تكون عن دعوات البعض إليها في ظل نظام الأسد، إذ إن أي حديث عنها في هذه الحالة سيكون تثبيتًا لحكم المرتكب ودعمًا لاستمرار جرائمه التي يُطلب من السوريين أن يسامحوه عليها. بالنتيجة ستحمل هذه المسامحة أثرًا مدمرًا على المجتمع السوري بجميع أطيافه.
ثانيًا: هناك مفارقة كبرى تكمن في أن المسامحة والغفران والنسيان أفعال بشرية لاإرادية لا يمكن تحقيقها بطلب أو دعوة من سياسيين أو حقوقيين أو غيرهم، فأنت لا تستطيع أن تطلب من عقلك أن ينسى، أو من قلبك (مجازًا) أن يسامح، ولكن يمكن تهيئة الظروف المناسبة للسوريين لمساعدتهم في الوصول إلى هذه المرحلة إن كانت ستضمن حمايتهم وحماية أبنائهم.
المسامحة عملية نفسية معقدة، ولها عدة مراحل ومنها ما يتطلب زمنًا طويلًا، كما أنها قد تحمل جانبًا ثنائيًا بين المعتدي والمعتدى عليه. قد تنطوي المسامحة في مراحلها على التخلي عن بعض المشاعر السلبية أو ردود الفعل السلبية تجاه المعتدي، وربما إعادة العلاقة مع المعتدي، أو القبول بالعيش في ظل الأسد في الحالة السورية. تقول الفيلسوفة الأمريكية جان هامبتون، في كتابها “المغفرة والرحمة”، إن استعادة العلاقة مع المعتدي قد تكون غير حكيمة فهي قد تؤدي إلى ضرر إضافي للضحية.
ثالثًا: من يطالب بالمسامحة دون تهيئة ظروفها، نصب نفسه قاضيًا وأصدر عفوًا ليس من حقه.
العفو فعل مسامحة وعادة ما يصدر عن طرف ثالث، أي ليس من المعتدي أو المعتدى عليه.
المطالبات بالمسامحة تشير ضمنيًا إلى أن من يدعو إليها قد تبنى العفو عن جرائم الأسد ورجاله، لكن هل يحقّ لأحد من أفراد أو جماعات أو دول أن يحرم أمًا من المطالبة بحق محاسبة من قتل ابنها تحت التعذيب، أو أن يحرم ضحية تعذيب من حقه في اللجوء إلى القضاء للمطالبة بمعاقبة المعتدي؟ بالتأكيد لا يحقّ لأحد حرمان الضحية من اللجوء إلى العدالة، ولكن يمكن ذلك، فالقانون السوري يحرم الضحايا من اللجوء إلى القضاء ضد المجرمين من عناصر الأمن والجيش. بما يشبه هذا الحرمان، هناك من يطلب من السوريين مسامحة الأسد على جرائمه، والقبول به رئيسًا مرة أخرى.
ما إمكانية أن تسامح أو تسامحي قاتل ابنك أو من عذبك أو عذب أحد أحبائك قبل أن يتم القبض عليه وعرضه على العدالة لمعاقبته؟ رغم ذلك قد لا يستطيع الإنسان المسامحة مطلقًا حتى لو تمت محاسبة المرتكب. فهل معاقبة من قتل ابنك تحت التعذيب بالسجن ستجعلك تسامحه على ما ارتكبه! معاقبة القاتل لا تعيد القتيل إلى الحياة، فالقاتل ارتكب فعلًا لا شيء يمكن أن يصلحه، لكن من الأغراض الأساسية للعقوبات ليس فقط محاسبة القاتل على جرمه، بل لردع الآخرين، وتعويض الضحايا نفسيًا وربما ماديًا، لا بد من تهيئة الظروف كي يستطيع السوريون البدء في مرحلة المسامحة، كتعديل القوانين والسماح بمحاسبة المرتكبين كي لا تتكرر هذه الجرائم، كما أن العامل الحاسم في إطلاق هذه العملية النفسية هو إزاحة الأسد ورجاله من الحكم.
إن لم تكن المسامحة عاملًا مسهمًا في ضمان تحقيق العدالة للسوريين وعدم تكرار ما تعرضوا له، فستكون عاملًا مدمرًا للمجتمع السوري وأجياله القادمة.