عنب بلدي – يامن المغربي
في ظل نقاشات حول دستور جديد لسوريا، تعمل عليه وفود من النظام والمعارضة والمجتمع المدني تحت مظلة الأمم المتحدة، قد يحدد شكل الدولة والحكم بعد ثورة انطلقت عام 2011، تعود الأسئلة حول أول تأسيس للدولة السورية وتطور شكل الحكم فيها حتى اليوم.
شهد 8 من آذار عام 1920، إعلان الملك فيصل بن الشريف حسين “ملكًا دستوريًا“ في سوريا، ثم صيغ لاحقًا دستور للبلاد جاء فيه أن نظام الحكم مكون من “حكومة ملكية دستورية مدنية نيابية وراثية في أسرة الملك فيصل”، بحسب ما جاء في كتاب “الحياة الحزبية في سوريا” للباحث محمد حرب فرزات (صفحة 34).
لم تدم المملكة التي قامت بعد انسحاب القوات العثمانية عام 1918، نتيجة هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، ووصول قوات الشريف حسين إلى دمشق، وقد سبقها دخول القوات البريطانية، التي وجدت الأمير سعيد الجزائري قد عيّن نفسه حاكمًا على المدينة، بحسب ما جاء في كتاب “تاريخ دمشق المنسي” للكاتب سامي مروان المبيض.
وتثار الأسئلة اليوم حول أحقية الملك فيصل بتولي مقاليد الحكم في سوريا، ضمن حركات التشكيك في التاريخ السوري، التي تسعى لإعادة صياغة التاريخ الذي تعرض “للتشويه” بحسب المنتمين لهذه الحركة، والسؤال الأبرز هو كيف تولى فيصل بن الحسين مقاليد الحكم في “المملكة السورية“؟
في حديث إلى عنب بلدي، يقول الصحفي السوري نضال معلوف، المهتم بتدقيق التاريخ السوري ومراجعته، إن الملك فيصل شكل ما عرف “بالحكومة العربية” في أواخر عام 1918، بعد أن نجح بالتقدم باتجاه الأردن وسوريا بدعم مادي وجوي من بريطانيا، نتيجة تحالف والي الحجاز في الدولة العثمانية، الشريف حسين، مع أعداء الدولة خلال الحرب العالمية الأولى، واستخدم الإنجليز قواته لتأخير وشلل القوات العثمانية في الجزيرة العربية وإقصائها عن المعركة الأساسية التي دارت في فلسطين بين الجيشين العثماني والبريطاني.
رغم “ثورة الشريف حسين” وانسحاب العثمانيين، حاولت اسطنبول التواصل مع الملك حسين، وأرسلت برقية إلى والي سوريا آنذاك تحسين بيك، طلبت منه ”استمالة الملك فيصل للدولة العثمانية، كما طالبته وزارة الخارجية بتنبيه الملك حسين من خطورة دخول القوات الأجنبية إلى البلاد”، بحسب كتاب “سوريا في الوثائق العثمانية“، وهو كتاب عمل عليه عدد من الباحثين الأتراك بالتعاون مع المديرية العامة لدور المحفوظات الرسمية- دائرة الأرشيف العثماني.
من رسم حدود المملكة؟
أقيم المؤتمر السوري العام بدعوة من الأحزاب السياسية السورية في تلك الفترة، وهي “حزب العربية الفتاة” و”حزب الاتحاد السوري” و”الحزب الوطني” و”حزب الاستقلال” و”حزب التغيير”، وذلك بغرض تمثيل البلاد والتحدث باسمها أمام اللجنة الدولية التي شُكلت بعد انسحاب القوات العثمانية.
رغم أن المؤتمر السوري العام حدد حدود المملكة السورية، بما يشمل جبال طوروس وفلسطين وسوريا الحالية والأردن، كان لاتفاقية ”سايس- بيكو“ بين بريطانيا وفرنسا رأي آخر، إذ قسمت سوريا الطبيعية كمناطق استعمارية فيما بينها، وينفي الصحفي نضال معلوف أي دور للملك فيصل في تحديد دول بلاد الشام.
ويشير معلوف إلى أن الأراضي العثمانية في المنطقة كانت مقسمة كغنائم حرب بين إنجلترا وفرنسا فيما عرف باسم اتفاقية ”سايكس- بيكو“، ولم يكن للشريف حسين دور مقرر في تشكيل دول في منطقة سوريا.
ويؤكد معلوف أن الأمير فيصل حاول مع بعض السوريين الوطنيين الخروج عن الاتفاق الإنجليزي- الفرنسي، وعقد مؤتمر سوري عام شارك فيه ممثلون من كل المناطق السورية، وأعلن بشكل منفرد قيام المملكة السورية العربية، في 8 من آذار من عام 1920، بعد أن وافق المؤتمر السوري على إعلانها.
وبحسب كتاب “الحياة الحزبية في سوريا” للباحث محمد حرب فرزات، أعلن المؤتمر حق العراق بالاستقلال، على أن يكون بينه وبين سوريا اتحاد سياسي واقتصادي.
كيف انتهت المملكة؟
انتهت المملكة رسميًا مع دخول القوات الفرنسية إلى دمشق بقيادة الجنرال غورو عام 1920، ورحيل الملك فيصل عن سوريا.
ويقول الصحفي نضال معلوف إن إعلان الدولة لم يكن ضمن خطط الحلفاء المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، فلم يقبلوا به، وحشد الفرنسيون جنودهم في لبنان ووجهوا الإنذار الشهير “غورو” للملك فيصل، ليسلم الحكم ويرحل عن سوريا، وهذا ما حصل إذ امتثل ونفذ الإنذار وأوامر الإنجليز ورحل عن سوريا، في تموز من ذات العام 1920، وانتهت قصة المملكة السورية عند هذا الحد، وعُيّن فيصل بعدها ملكًا للعراق (محدود الصلاحيات) حتى وفاته في العام 1933.
قبيل إعلان المملكة، تم تبديل قوات فرنسية بقوات بريطانية في أربعة أقضية، هي بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا، لتنفيذ الخطة الفرنسية المقررة سلفًا باحتلال سوريا، وهو ما أثار أزمة كبيرة ثار جراءها المواطنون الذين كانوا ينتظرون جلاء كل القوات الأجنبية عن البلاد، وهو ما اضطر الملك فيصل لمفاوضة الفرنسيين واجتمع مع رئيس الوزراء الفرنسي، كليمنصو، لعقد اتفاق بين الطرفين، وفي 9 من أيار من عام 1920، تلا وزير الخارجية السوري، عبد الرحمن الشهبندر، بيانًا للحكومة، جاء فيه “رفض كل المداخلات الأجنبية التي تمس الاستقلال القومي”، لتتحرك القوات الفرنسية باتجاه دمشق.
ولا يمكن تجاهل وفصل الأوضاع الاجتماعية الداخلية، والأفكار التي طرحها الملك فيصل لهوية الدولة الوليدة، ودورها في ضعف العهد الفيصلي، خاصة تعامل الملك فيصل مع الفرنسيين والنخب السياسية السورية في الداخل.
ويرى الباحث بشير زين العابدين، في كتابه “الجيش والسياسة في سوريا 1918-2000″، أن أكبر تحدٍّ واجهه العهد الفيصلي، هو تحديد هوية الكيان السياسي، للإقليم الذي كان يخضع للحكم العثماني زهاء أربعة قرون، حيث عمد فيصل بن الحسين إلى تأسيس نظام ملكي.
ويقول زين العابدين، لعنب بلدي، إن الملك فيصل بن الحسين، تبنى الفكر القومي كأيديولوجية جديدة تضم إليها الجماهير العربية، متخذًا من النمط الغربي أساسًا لبناء دولته الحديثة.
لكن النخبة المحيطة بالملك لم تتمكن من استيعاب الفرق بين أنظمة الحكم الغربية بالمقارنة مع النظم الشرقية، فبينما كانت الأعراق والقوميات هي أساس نشوء دول أوروبا الحديثة فإن الدول الشرقية تميزت بتعدد القوميات والأديان.
وافترض المنظرون القوميون، خلال ما عرف بالعهد الفيصلي، أن الدولة العلمانية الحديثة كفيلة بحل جميع الفروقات الدينية والمذهبية، واجتهد أركان الدولة العلمانية ليحدوا من دور الدين في الحياة العامة، ورفعوا شعار توحيد جميع المواطنين على أساس اللغة والعرق. ولكن هذه الفكرة واجهت اعتراضًا كبيرًا، ليس من التيار الديني الواسع فحسب، وإنما من أبناء الأقليات الدينية والعرقية والمذهبية، الذين وجدوا أن مشروع الوحدة العربية سيخلق كيانًا سياسيًا لا يحترم خصوصياتهم التي كانوا يحرصون على المحافظة عليها.
وأتت التجربة الفيصلية بنتائج عكسية، فبينما اعتبرها القوميون وسيلة لتوحيد المجتمع على أساس العرق واللغة، نظر أبناء الطوائف إليها كمحاولة لتذويبهم في المجتمع، وقدمت لهم مبررًا للمطالبة بحماية الدول الغربية وفرض الانتداب.
ولم تضع نهاية الحكم الفيصلي حدًا لهذه المعركة القومية- الطائفية بل استمر الصراع طوال فترة الانتداب، حيث كانت بريطانيا تظهر دعمها لمطالب القوميين، بينما كانت فرنسا تدعم أبناء الطوائف في مطالبتهم بإنشاء دويلاتهم المستقلة التي قامت على أنقاض المملكة الفيصلية عام 1920، واستمرت حتى عام 1936.