لماذا “إلى سما” هو الأفضل؟
نبيل محمد
أول ما يفتحه فيلم “إلى سما؟” السوري، الذي ينافس اليوم للحصول على إحدى جوائز الأوسكار، كبرى جوائز السينما في العالم، والذي دخل في قوائم أفضل الأفلام التي أُنتجت عام 2019 وفقًا لتصنيفات عالمية مهمة، هو باب المقارنة بينه وبين الأعمال السينمائية التسجيلية، التي تناولت جانبًا من الواقع السوري جراء الحرب، خاصة تلك التي ذاع صيتها وحضرت في مهرجانات عالمية كبرى، وحازت على جوائز بعد أن ارتقى صناعها منصات كبرى في أوروبا والولايات المتحدة وكندا وغيرها، إلا أنها لم تُرضِ شريحة كبيرة من الجمهور، وبقيت فيها ثغرات لعلّ السوريين أكثر من يستطيعون الإشارة إليها، وأكثر من رصد تلك الحقائق الغائبة عن المنجز الفني المواكب لواحدة من كبريات مآسي البشرية.
الحقيقة، هي تمامًا ما جعلت الفيلم في المكان الذي هو فيه اليوم، سواء رسميًا، أو على لسان الآلاف ممن شاهدوه، فلا زيف في هذه الصورة بتاتًا، ولا صناعة لأي حدث، أو تدخل من قبل الصنّاع في رسم صورة أكثر تأثيرًا، أو في اقتياد الصورة إلى حيز يمكن قراءتها فيه بشكل مختلف، تلك الحقيقة كانت هي ما تريد المخرجة وعد الخطيب وبقية الكادر القائم على الفيلم إظهاره، مع قناعتها وفق ما يبدو بأن أي مكان تتحرك فيه كاميرتها في شرقي حلب، تحت الحصار والقصف اليوم، ستخرج به إن لم تنتزعها قذيفة أو شظية ما، بصورة غاية في الحقيقية، لذا أدركت أن تحريكها بين المشفى، والمنزل، والشارع، وبيوت الجيران، كافٍ لنقل حياة من تبقى في هذه المدينة، ومن لا يمكنه إيصال صوته في ظل ما يتعرض له من حملة عسكرية تبيد أي نتوء يظهر أمامها في مشروعها لمسح كل ما هو حي.
الشجاعة، تلك القيمة التي تظهر بين مشهد وآخر خلف الكاميرا وأمامها، ويتجلى حضورها الأقوى، حين قررت مخرجة الفيلم وزوجها الطبيب اللذان تواكب قصة حبهما كل تفاصيل العمل، العودة إلى حلب، بعد سفرهما إلى تركيا، وانقطاع الطرقات عن المدينة وإحكام الحصار عليها حين وجودهما في الخارج. القرار الشجاع بالعودة إلى معمل الموت ذاك، وبألا تكون الرحلة إلى تركيا سوى استراحة بسيطة يمكن لأبطال العمل فيها أخذ شهيق جديد، ومسح الغبار عن العدسات، وشحن الكاميرا دون انقطاع، وشراء بعض المعدات والأدوية للمشفى، ومن ثم العودة إلى الناس والمحيط الذي حملوا فيه مسؤولية البقاء، وحملت فيه المخرجة مسؤولية تحريك الكاميرا من جديد.
عدم وجود سيناريو مسبق، ولعل هذه القيمة هي الأهم، والأكثر تأثيرًا في جعل الفيلم على قائمة أهم منجز بصري صدر من سوريا خلال السنوات السابقة، وربما خلال جزء كبير من تاريخ تلك البلاد التي تقاطع الفن الحقيقي منذ عقود، فلم يرسم للفيلم سيناريو يحدّ من حركة كاميرته ويؤطرها في مكان معين لا تخرج منه، ولا تتقيد بحواجز تصنعها السياسة أو الدين أوالتقاليد أو الممول. فلم تنقّب الكاميرا فقط خلف آثار الطغيان الإسلامي السلفي الجهادي، لتخرج بمنجز “سكسي” في المهرجانات البيضاء، ولم تلتزم بأطر قد يفرضها عليها المجتمع المحيط خاصة في الظرف الذي تعمل به، وخلال صناعة الفيلم كان صنّاعه يهدفون إلى نقل أكبر قدر ممكن من الحقائق والأحداث والرسائل الإنسانية بعيدًا عن التفكير بمستقبل الشريط في مهرجان دولي، أو جائزة كبرى، أو دعم مادي ضخم. كان كل ذلك بعيدًا بشكل واضح عن الفيلم، بل هناك حلمان لا ثالث لهما، أولهما النجاة، وثانيهما نقل حقيقة المأساة إلى كل العالم.
عن قصد أو دون قصد، وفي ازدحام الموت بكل مؤشراته وروائحه في فيلم “إلى سما” هناك دلالات حياة تظهر وتستمر، من أزهار بيت الزوجية، إلى اختبار الحمل، إلى عودة المولود للحياة. حجم الموت في الفيلم أكبر من الفيلم، وأكبر من كل شيء يمكن أن يحققه هذا الفيلم، وأمام هول الموت هذا، هناك صبيّة ترقب أي زاوية يمكن أن توحي بالحياة لتضع كاميرتها أمامها، لا تريد تلوين الفيلم بالحياة، إنما تريد تلوين واقعها بأمل أنها لن تموت هي وأسرتها وأحبتها، إنما يمكنهم رغم هول كل هذا أن يخرجوا أحياء، وهو ما حدث.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :