حنين النقري
جالسًا على أرض غرفته المظلمة إلا من ضوء شمعتين، تتبعثر حوله خرائطٌ وقصاصات ورق سُجّل عليها أسماء سماسرة وأرقام هواتفهم، يُسند ظهره أخيرًا إلى الحائط وقد تملّكته الحيرة ونال منه القلق.
فمنذ أن عزم سامح على الخروج من الغوطة الشرقية في آب الماضي، وهو منهمكٌ في جمع الخرائط والمعلومات، يقضي نهاره بلقاء سماسرة التهريب، ويمضي الليل يحلّل ما بين يديه من معطيات، محاولًا أن يصل إلى قرارٍ أخير حيال الطريق الذي سيسلكه، طريقٌ قيل له أنه سيحدّد مصيره.
لا حلول في الأفق
وتفرض قوات النظام حصارًا مطبقًا على مدن وبلدات الغوطة الشرقية في دمشق منذ قرابة 20 شهرًا، حيث تمنع دخول المواد الغذائية والتموينية إضافة للخدمات الرئيسية كالكهرباء والماء، وتشير إحصائيات المجلس الحقوقي الموّحد إلى أن ما يزيد عن مليون نسمة معظمهم من النساء والأطفال محاصرون في مختلف مدن وبلدات الغوطة الشرقيّة.
أتمّ سامحٌ العشرين من عمره في ظل الحصار، وكما أقرانه، ينتظر «النصر المبين» ليلتحق بالجامعة ويدرس حلم حياته «الإعلام»، بعد أن مارس الصحافة عمليًّا في عدد من الجرائد المحليّة والعربية.
طال عمر الحصار ولا جديد يُنتظر؛ لم يعد أمام سامح فرصة سوى الخروج في رحلة مجهولة المعالم، معروفة الوجهة. لم يكن هربه من حصار الأسد على الغذاء، يقول سامح «بل كان كسرًا للقيد الذي فرضه على المعرفة والعلم والشغف».
وعانت المرافق التعليمية في الغوطة الشرقيّة دمارًا كبيرًا، إذ تجاوز عدد المدارس المدمرة بشكل كليّ 80 مدرسة من أصل ما يقارب 400 معظمها مغلق وممنوع من العمل، ما يحرم قرابة 14 ألف طفل من متابعة تعليمهم حسب إحصائيات المجلس المحليّ، إضافةً إلى أعداد أخرى غير معروفة من طلبة الثانويات والجامعات.
نفقات التهريب راحت هباءًا
يخبرنا سامح أنه أنفق معظم ما جمعه من أهله وادخره سابقًا على محتالين ادّعوا معرفتهم بالطريق وقدرتهم على إنجاز المطلوب بكل سهولة، وهكذا ذهبت 800 دولار لسماسرة الحرب وتجّار الطرق.
أخيرًا تمكّن من التواصل مع قريب له يعمل مع فصيل مسلّح في الغوطة، فأخبره بقصته وبكل ما لاقاه من المتاعب والمحتالين، وبعد مباحثات أمنيّة حصل له قريبه على إذن بعبور أحد الأنفاق السريّة التي تصل الغوطة ببعض الأماكن على أطراف العاصمة دمشق.
ويمنع الحصار الذي تفرضه القوات النظامية على المناطق المحاصرة في سوريا خروج سكّانها منها، مع وجود أعداد كبيرة من الطلاب توقّفوا عن الدراسة لهذا السبب، الأمر الذي دفع الكثيرين إلى حمل السلاح في ظل بطالة خانقة، أو إلى محاولة الخروج هربًا من طرق غير نظامية تشكّل الأنفاق مرحلتها الأولى.
“رحلة العمر”
حان موعد «رحلة العمر» كما يسميها البعض، لا متاعٌ هنا يمكن اصطحابه، إذ لا تسمح الأنفاق التي تحفرها التشكيلات المقاتلة لأغراض عسكرية سوى بمرور الأفراد دون قدرة على حمل المتاع، اكتفى سامح بأوراقه الثبوتية والشخصية وبعض المال يأمل أن يكفيه مؤونة سفر طويل.
التقى سامح بقريبه في نقطة قريبة من منزله، حيث استقلّ سيارة جيب مع عدد من عناصر الفصيل، قادوه إلى جهة مجهولة.
يقول سامح «نزلنا بعد مضي قليلٍ من الوقت في مكان لم أستطع معرفته، وعرّفني قريبي على دلّال سيقودني عبر النفق إلى الجهة الأخرى، وحالما أصل سيتركني عائدًا بينما أواجه مصيرًا لا يزال ضبابيًا بالنسبة لي».
«وصلت بي نهاية النفق إلى منزل متواضع في حيّ على أطراف العاصمة دمشق، استلقيتُ متعبًا منهكًا من رحلةٍ طويلةٍ على الأقدام»، وفق تعبيره، مكملًا «تغمرني مشاعرٌ مختلطة من الراحة والقلق، راحةٌ بخروجي أخيرًا من حصار الغوطة، وقلقٌ يفرضه المكان الغريب عليّ ومخططاتي المجهولة».
وعقد نظام الأسد منذ مطلع 2014 مجموعة هدن مع عددٍ من الأحياء الدمشقية الثائرة ضده على تخوم العاصمة، فنجح بعضها وإن كانت هشة في بعض الأحيان، بينما فشلت المحاولات الباقية.
وتشمل هذه الاتفاقيات وقفًا متبادلًا لإطلاق النار، وسماح النظام للأهالي بالدخول والخروج من تلك المناطق، وإدخال المواد الغذائية والتموينية إليها، مقابل تسليم الجيش الحرّ لبعض أسلحته لا سيما الثقيلة، ورفع أعلام النظام على المباني الحكومية فيها.
الطرقات مغلقة بعد الغوطة والحواجز تنتظر!
أما سامح فحبيس منزله الجديد قرابة شهرين، وبدأت أحلامه الوردية في متابعة الطريق إلى تركيا بالتحطم، فبعد استقصاء مطوّل لم يجد سامح من مخرجٍ للشمال السوري سوى المرور عبر حواجز النظام، وهو المتخلّف عن الخدمة العسكرية الإلزامية والمطلوب لأجهزة الأمن.
أخيرًا قرّر سامح استعارة بطاقة الهوية الشخصية لأخيه الذي أتمّ خدمة العلم قبل انطلاقة الثورة، وذلك بعد تأكّده عن طريق ضابط يعمل في مخابرات الأسد -مقابل مبلغٍ من المال- أن شقيقه غير مطلوب لأية جهة أمنية أو عسكرية.
اتفق سامح مع سمسار جديد على 600 دولار؛ مقابل تأمين سيارة مع سائقها يقوده من مكان إقامته الحاليّ إلى مدينة منبج في ريف حلب الشمالي، ويضمن له تسهيلات في إجراءات التفتيش ودفع الرشاوي في حال اكتشاف أمره من قبل الحواجز المنتشرة طول الطريق.
يخبرنا سامح أن أصعب ما واجهه كان تعطّل الحافلة التي تقلّه أمام المخابرات الجوّية، ساعة كاملة من الوقوف قرب عناصر ذاق قصفهم ولا يريد تجربة الاعتقال بين أيديهم».
«مرّت الساعة كسنة لتأتي سيّارة بديلة تقلّنا، وما كان المرور بعدها على ما يزيد عن 50 حاجزًا نظاميًّا بالأمر اليسير أبدًا»… عند كل حاجز كنت أتخيّل سيناريو اكتشاف أمري وماذا سيحلّ بي، لكن الله سلّم» يضيف سامح.
هل انتهت الرحلة بعد النظام؟
عند نقطة ما خرجت السيارة من المناطق التابعة لسيطرة القوات النظامية، ودخلت أخرى تخضع لسيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية»، يقول سامح تم تفتيشنا لساعة كاملة على أحد حواجز داعش، كانوا يتأكدون أن لا «منكرات» بحوزتنا، كالدخان والأغاني وصور الموبايلات.
وكان تنظيم «الدولة» بسط سيطرته على مساحات واسعة شمال وشرق سوريا، آخرها معارك شرق حلب، والسيطرة على مدينة تدمر الأثرية الأسبوع الماضي، بينما أبدت تصريحات رسمية وتقارير دولية مخاوفها من أن تنظيم الدولة بات يسيطر على نصف مساحة سوريا.
بعد ليلةٍ أمضاها سامح في مدينة منبج أخذ يبحث عن سمسار جديد يقوده إلى الأراضي التركيّة، ليقع مجددًا بين أيدي أحد المحتالين المستغلين لحاجة الناس واضطرارهم، إذ قاده أحدهم عبر طريق مكشوف هناك لتمسكه القوات التركية (الجندرما)؛ فانهالت عليه بالضرب، على حدّ وصفه، وأعادته إلى الحدود السورية.
تعلّم سامح من تجربته الأولى، وتمكّن أخيرًا من الوصول إلى الأراضي التركيّة بأمان، ليستقل سيارة تقوده إلى بلدة تركيّة على الحدود حيث يعيش بعض أقاربه.
انتهت رحلة سامح أخيرًا بتحقيق «حمله» في الوصول إلى تركيا، حيث يرغب في البدء من جديد لمتابعة دراسته والالتحاق بكليّة إعلاميّة، وبينما يستجمع طاقته ليباشر أحلامه هناك وطن كامل ينتظر هو الآخر أن يحقق أحلامه.