شام العلي – دمشق
اعتاد سكان دمشق في العطل والأعياد، وبعد انتهاء الدوام، الذهاب لقضاء الأوقات في الهواء الطلق وأحضان الطبيعة، خصوصًا في فصل الصيف، إذ ترتفع درجة الحرارة وتزداد المدينة ازدحامًا وتلوثًا وضوضاءً، فيتجه الدمشقيون إلى الأرياف المحيطة بالعاصمة والغوطتين الشرقية والغربية، أو إلى المحافظات السورية الأخرى. بحثًا عن الهدوء والسكينة والهواء العليل.
السفر بين المحافظات ضرب من الجنون
لكن منذ اندلاع الأحداث في البلاد، لم تعد تلك العادة موجودة، ولم يعد «للسيران» و «لنزهات الصيف» عند الدمشقيين معنًى سوى الذكريات والحنين. فالمعارك المتواصلة بين قوات النظام وقوات المعارضة في معظم الأراضي السورية، وصعوبات التنقل بسبب الحواجز المنتشرة بكثافة، وانعدام الأمان، إضافة إلى ارتفاع أسعار المحروقات، جعلت السفر بين المحافظات السورية للتنزه ضربًا من الجنون.
أما المناطق القريبة من دمشق والمتنزهات التي كان يقصدها الدمشقيون بكثرة، كمنتزهات الهامة والفيجة والزبداني (غربي العاصمة)، فهي تشهد معارك لا تهدأ، وبالنسبة لمنتزهات واستراحات القلمون، فقد دمرت كليًا، مثل استراحة «طيبة» التي تقع على الأوتوستراد بين دمشق وحمص، أو توقفت عن العمل إثر النزاع والحرب الدائرة.
رئة دمشق أكلتها النيران، والربوة هي الملاذ المتبقي
«الغوطة»، رئة سورية عامة ودمشق خاصة، أكلتها النيران أيضًا، وتحولت إلى ساحة معركة لا هوادة فيها، ما أحكم الخناق على دمشق، لاسيما بعد زحف الحرب إليها وامتلائها بالحواجز، التي جعلتها أشبه بكتل إسمنتية منعزلة، لتحتل «الربوة» بدلًا عن الغوطة مكان الصدارة لمن يريد «تغيير الجو» أو «السيران».
تتميز الربوة بمناخها العليل لعبور نهر بردى فيها، الذي يبدأ رحلته من منبعه قرب الزبداني ليصل دمشق وأزقتها بأفرعه السبعة، إضافة إلى طبيعتها الجميلة وقربها من وسط العاصمة. ورغم الإهمال الكبير للمكان وتحوله إلى محلات وكافيتريات تجارية، فضلًا عن تلوث النهر وتحوله إلى مكب لنفايات الناس والمطاعم والمقاهي، إلا أنها تشهد ازدحامًا كبيرًا، يزداد في منتصف النهار وأيام العطل، وإقبالًا شديدًا يجعلها بامتياز خليفة الغوطة في مكانتها، رغم أنها لا تضاهيها ولا تدانيها جمالًا.
يتساءل أبو أحمد، وهو مواطن اعتاد ارتياد الربوة للتنزه أسبوعيًا مع عائلته «وين في مطرح تاني نروح عليه؟».
قطار النزهة.. مثار جدل بين السوريين
أثارت عودة قطار «دمر الربوة -ساحة الأمويين» في الأول من أيار بعد توقفه منذ عام 2010 جدلًا كبيرًا بين السوريين، ما بين مؤيد ومعارض وساخر، فالخطوة التي كان الهدف منها، بحسب مسؤولين محليين، إعادة الأمل لسكان العاصمة، كانت لها أصداء مختلفة عند السوريين.
يقول رئيس دائرة المباني في المؤسسة العامة للخط الحديدي الحجازي «زهير خليل» في تصريحه الذي نشر في جريدة السفير بتاريخ 2/5/2015 «قررنا إعادة تسيير الخط لإعادة الأمل والبسمة إلى أهالي دمشق لأنه شريان من شرايين المدينة».
جرب كثير من المواطنين القطار وكانت سعادتهم به كبيرة، فهم يرون أنه ليس تخلفًا، وإنما عودة إلى التراث وتذكير بأيام الرخاء.
سارة وصديقاتها ركبوا في القطار بعد دوامهم في الجامعة واتجهوا إلى الربوة، واعتبرت في حديثها لعنب بلدي أنه «من أجمل أيام العمر». وعلى صفحة «يوميات قذيفة هاون» على الفيسبوك علق السوريون على نشر خبر إعادة القطار إلى الخدمة بشكل مختلف. فبينما قالت يمامة «حسينا روح الحياة رجعت لدمشق لما ركبنا فيه»، رآى خرون أن القطار هو «ضحك على اللحى»، وأنه كمن يرش السكر على الموت، متسائلين «هل سننسى بيوتنا المدمرة ونفرح بقطار هفتان؟».
ويعلق وسام حجار ساخرًا «متى سيعود الطنبر والحمير والبغال؟»، أما دانيا عجلوني فترد «شوي تانية بيقلبولنا التلفزيونات أبيض وأسود»، وتتساءل إيناس كرم «في خط عسكري يا ترى؟».
لكن نبيل كرم اعتبر القطار «فلكلورًا جميلًا»، مضيفًا «جميل أن نشاهد هذا المنظر بعد وقت طويل، وياريت ترجع أيام العربيات»، مشيرًا إلى أن قيمة بطاقات الركوب «لا تكفي ثمن الفحم الحجري المشغل للقاطرات»، علمًا أن البطاقة تباع بـ 50 ليرة سورية.
ورغم أن القطار أصبح مثارًا للجدل حد الخصومة بين الدمشقيين، إلا أن عودته إلى العمل حملت كثيرين بدافع الحنين أو الفضول أو حتى السخرية إلى تجربته وزيارة الربوة، مما ساهم بتنشيط السياحة في تلك المنطقة.
قطار الربوة يمتد مسار القطار على جزء مما تبقى من الخط الحديدي الحجازي، الذي كان يصل بين دمشق والمدينة المنورة مطلع القرن الماضي، ودمرت أجزاء منه وتعرض للتخريب خلال الحرب العالمية الأولى.
قبل اندلاع الثورة السورية كانت رحلات القطار تنطلق من محطة القدم جنوب دمشق، إلى محطة الحجاز ثم يمر بدمّر والهامة ومنها إلى أشهر مصايف الغوطة عين الخضرا وعين الفيجة، وتنتهي رحلته في سرغايا.
حظيت رحلاته بشعبية واسعة بين سكان دمشق وأريافها بمختلف طبقاتهم الاجتماعية، كما لاقى رواجًا بين السائحين آنذاك. وتميز مشهد سير القطار بأيدي الأطفال الملوحة من نوافذه، وبالعشرات منهم أيضًا على أسطح منازلهم المشرفة على السكة.
وإضافة لتخديمه أبناء تلك المناطق، كانت وجهة ركابه من السائحين إما المطاعم الشهيرة أو «المصاطب» الشعبية التي انتشرت على ضفاف مجريي نبع الفيجة والخضرا، حيث كان بإمكان العائلات حجز المكان، وطلب الطعام الجاهز، أو معدات للطبخ أو الشواء، إضافة لتوفر ملاهي للأطفال، وكان المشهد الأبرز هو «البطيخة» تبرد في مياه النبع.
أوقف تسيير رحلات القطار في العام 2010 لأسباب فنية استدعت إصلاح وترميم العربات والسكك؛ واستمر توقفها مع اندلاع الثورة السورية. إلى أن قامت المؤسسة العامة للخط الحديدي الحجازي مؤخرًا بتسيير رحلات القطار من جديد باسم «قطار نزهة» الذي يقل 100 راكب، وتبلغ سعر تذكرته 50 ليرة سورية.
انطلقت أولى رحلاته في الأول من أيار من العام الجاري، إلا أن مساره الحالي، «قطار النزهة»، يقتصر على المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، فينطلق من خلف الشيراتون إلى الربوة، مرورًا بدمّر، وصولاً إلى مشارف قدسيا وبالعكس.