عنب بلدي – أحمد جمال
تصر موسكو على سياسة الحسم العسكري في تعاملها مع الملف السوري، ما ينسف المحادثات الدولية الرامية للوصول إلى حلول سياسية، إذ تدعم روسيا اليوم حملة عسكرية جديدة بهدف السيطرة على معظم أرياف محافظة إدلب وتأمين الطرق الدولية.
وعقب ختام الجولة الـ14 من محادثات “أستانة” في العاصمة الكازاخية بحضور الدول الضامنة لسوريا (روسيا، تركيا، إيران)، انطلقت عملية عسكرية للنظام السوري المدعوم روسيًا للسيطرة على معرة النعمان، كبرى مدن إدلب.
وشهد ريفا إدلب الجنوبي والشرقي تصعيدًا لافتًا في الأيام الماضية، متمثلًا بغارات للطيران الحربي الروسي والسوري، التي تركز على استهداف الأحياء السكنية والأسواق الشعبية والمراكز الخدمية.
ومنذ مطلع تشرين الثاني الماضي حتى 20 من كانون الأول الحالي، وثق فريق “منسقو استجابة سوريا” نزوح أكثر من 175 ألف نسمة من ريف إدلب الجنوبي إلى المناطق الحدودية في ريفي إدلب الشمالي وريف حلب.
كما وثق “الدفاع المدني السوري” مقتل 59 شخصًا وإصابة 135 آخرين منذ 15 حتى 20 من كانون الأول الحالي.
هجوم مكثف على إدلب
بدأت قوات النظام السوري مدعومة بالميليشيات الرديفة والطيران الروسي، عملية عسكرية على محوري إدلب الشرقي والجنوبي، أسفرت عن سيطرتها على قرى أم التينة والمديرسة وبرنان ومزارع أم جلال وربيعة وخريبة وشعرة العجايز وأم توينة وتل محو والفريحة وبريصة وأبو حبة وتل الشيح، بحسب وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا).
وترافقت العملية العسكرية مع تصعيد جوي مكثف من الطيران الحربي السوري والروسي على مدن وبلدت المنطقة الواقعة شرق الطريق الدولي “M5″، وتركزت على استهداف مدينة معرة النعمان وريفها الشرقي.
وردت فصائل غرفة عمليات “الفتح المبين” العاملة في إدلب، بعمليات هجومية صاروخية على مواقع وتجمعات قوات النظام في عدة محاور بريفي إدلب الشرقي والجنوبي وريف اللاذقية الشمالي، إلى جانب التصدي لمحاولات تقدم وتسلل على تلك المحاور، معلنة مقتل وإصابة العشرات من جنود النظام، وثقتها بفيديوهات وصور على معرفاتها الرسمية.
بدوره قال قائد مركز المصالحة الروسي، اللواء يوري بورينكوف، في تصريحات نقلتها وكالة “سبوتنيك” ، في 20 من كانون الأول الحالي، “خلال صد هجمات الإرهابيين، قُتل 17 عسكريًا سوريًا وأصيب 42 آخرون بجروح”، بينما قدر المسؤول الروسي خسائر الفصائل بـ200 شخص من القتلى والجرحى، دون تأكيد رسمي منها.
الفصائل: لا خيار سوى المقاومة
فصائل غرفة عمليات “الفتح المبين” العاملة في إدلب ترى أن الروس لا يلتزمون بأي اتفاقية حول سوريا وخاصة إدلب، ويلجؤون للتصعيد عقب كل جولة محادثات دولية.
وقال الناطق باسم فصيل “الجبهة الوطنية للتحرير”، النقيب ناجي مصطفى، في حديث إلى عنب بلدي، “تحاول روسيا من خلال العملية البرية الأخيرة بترسانتها العسكرية دعم قوات النظام السوري، للتقدم والوصول إلى مدينة معرة النعمان عبر سياستي قضم المناطق والأرض المحروقة”.
المعارك الجارية بين الفصائل وقوات النظام السوري في محاور إدلب تندرج في إطار “الكر والفر”، في محاولات لاستعادة المناطق التي خسرتها الفصائل في الهجمات الأخيرة من جهة، ولمنع النظام والروس من التقدم تجاه مدينة معرة النعمان من جهة أخرى، بحسب الناطق العسكري.
وقال مصطفى، “الفصائل المقاتلة في إدلب لا تملك إلا خيار المقاومة والتصدي لهجمات النظام وحلفيه الروسي على المنطقة”.
ماذا جرى في أستانة؟
المتحدث الإعلامي لوفد فصائل المعارضة السورية إلى محادثات “أستانة”، أيمن العاسمي، قال إن ما يحدث في إدلب هو تصعيد روسي بعد فشل موسكو بفرض وجهة نظرها في محادثات “أستانة” الأخيرة، في 11 من كانون الأول الحالي، ليخرج المجتمعون بلا نتائج تنهي “مأساة إدلب”.
وأوضح العاسمي، في حديث إلى عنب بلدي، “كان هناك مقترح من وفد المعارضة لإيقاف القصف في إدلب، في خطوة لاختبار نوايا الروس والنظام السوري، لكن الأخير استمر بخروقاته مرارًا وردت عليه الفصائل في المنطقة”.
وأضاف أن “الروس لم يطرحوا خلال الاجتماع أي مقترح حول إدلب، وإنما طلبوا الحديث عن اللجنة الدستورية ومكافحة الإرهاب، الأمر الذي رفضه وفد الفصائل وطالب بوقف القصف قبل منافشة أي مقترح آخر، باعتبار أن القصف يهدد المسارات السياسية كافة، بما فيها جنيف وأستانة، وليس فقط اللجنة الدستورية”.
ويصر وفد فصائل المعارضة السورية على وقف القصف والعمليات العسكرية في إدلب كقاعدة أساسية للتفاوض، وهو ما دار بين الوفد والمبعوث الأممي إلى سوريا، غير بيدرسون، خلال محادثات أستانة الأخيرة.
ويرى أنه يجب على “هيئة التفاوض” إعلان انسحابها من اللجنة الدستورية وجميع المسارات السياسية، ورفضها أي مناقشات ومحادثات إذا لم يتوقف القصف على إدلب.
تفاهم ثلاثي
وكانت الدول الثلاث الضامنة لمحادثات أستانة (روسيا، تركيا، إيران)، ذكرت في بيانها الختامي، في 11 من كانون الأول الحالي، أنها ستواصل التعاون في القضاء على “الجماعات الإرهابية” في سوريا، بما في ذلك تنظيم “الدولة الإسلامية” و”جبهة النصرة” وغيرهما من “الجماعات الإرهابية” التي حددتها الأمم المتحدة.
وعبرت الدول الثلاث عن قلقها مما وصفته بـ”تزايد الأنشطة الإرهابية” في محافظة إدلب، لكنها أكدت ضرورة تهدئة الوضع على الأرض.
وذكر البيان أن الدول الضامنة ستتخذ تدابير لضمان حماية المدنيين في منطقة “خفض التصعيد” في إدلب والمنطقة المحيطة بها.
وتقول الرواية الروسية الرسمية إنها تستهدف مقرات “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة التي انحلت وفكت ارتباطها بالقاعدة) في إدلب.
وكان رئيس وفد النظام السوري إلى محادثات “أستانة”، بشار الجعفري، أكد مواصلة العمليات العسكرية في محافظة إدلب، فيما أسماه استمرارًا لـ“مكافحة الإرهاب”، وذلك خلال مؤتمر صحفي عقب انتهاء محادثات “أستانة”، في 11 من كانون الأول الحالي.
بينما أوضح وفد فصائل المعارضة خلال مؤتمر صحفي على هامش اجتماعات “أستانة” حينها، أن العمليات العسكرية على إدلب، ليست حربًا ضد “الإرهاب” كما ادّعى الجعفري، وإنما هجمات من النظام وحلفائه على المدن والقرى السورية، أدت إلى سقوط ضحايا مدنيين وتهجير السكان.
لكن الجعفري اعتبر أن ملف إدلب “متعلق بمكافحة الإرهاب ولا يتعلق بأي ملفات أخرى”، وتابع، “الحكومة السورية تملك كل الحق مع حلفائها بمكافحة الإرهاب، ولدى النظام كل الأسس القانونية، من قرارات مجلس الأمن وقرارات أستانة، وهذا يعطي الحق للحكومة السورية بالهجمات”، بحسب تعبيره.
أين تركيا؟
شهدت محافظة إدلب مظاهرات غاضبة لمئات المتظاهرين الذين حاولوا اقتحام معبر “باب الهوى” الحدودي مع تركيا، في 20 من كانون الأول الحالي، وهو ما قوبل بقمع من فصائل المنطقة، وعلى رأسها “هيئة تحرير الشام”.
وأفاد مراسل عنب بلدي في إدلب أن “تحرير الشام” قطعت الطرقات المؤدية إلى معبر “باب الهوى” عبر كتل أسمنتية وحواجز عسكرية، وأطلقت الرصاص في الهواء مع قنابل مسيلة للدموع، لقطع الطريق على آلاف المتظاهرين من الوصول إلى المعبر الحدودي.
وكان عدد من الناشطين المدنيين والمراصد الموجودة في الشمال السوري دعوا إلى مظاهرات في “باب الهوى” احتجاجًا على التصعيد العسكري، ولمطالبة تركيا بالتدخل وأن تأخذ نقاطها العسكرية دورها بشكل جدي.
وتجاهلت تركيا ما يجري في إدلب، باستثناء ما صرح به الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الخميس، بأن 50 ألف شخص في طريقهم إلى تركيا قادمين من إدلب.
في المقابل، اعتبر المتحدث الإعلامي لوفد فصائل المعارضة السورية إلى محادثات “أستانة”، أيمن العاسمي، أن تركيا تدعم موقف المعارضة السورية، إلى جانب انتشارها العسكري عبر نقاط المراقبة المنتشرة في إدلب وريف حلب ضمن اتفاقية “سوتشي” الموقعة في أيلول 2018 مع روسيا.
وعلى الأرض، عززت القوات التركية نقاطها العسكرية، إذ دخل رتل عسكري تركي من “باب الهوى”، في 21 من كانون الأول الحالي، وقال مصدر من فصيل “فيلق الشام” لعنب بلدي إن الرتل التركي يحمل مواد لوجستية لدعم وتعزيز نقاط المراقبة الموجودة في مناطق العيس وتل طوكان والصرمان ومعرحطاط بريف إدلب الجنوبي.
نداءات استغاثة
وجهت منظمات محلية في إدلب نداءات استغاثة، في الأيام الماضية، بسبب ما وصفته بـ“الكارثة” التي تشهدها مدينة معرة النعمان وريفها بريف إدلب الجنوبي.
وقال مدير فريق “منسقو استجابة سوريا”، محمد حلاج، لعنب بلدي، إن مدينة معرة النعمان وريفها الشرقي يشهدان تصعيدًا مكثفًا أدى إلى تفريغ المنطقة من معظم سكانها في ظل حركة نزوح مستمرة.
وأضاف حلاج أن “هناك أزمة متمثلة بمأوى ملائم للنازحين المتمركزين على جوانب الطرقات والأراضي الزراعية، ما دفع الفعاليات المحلية لفتح بعض المساجد في مدينة إدلب لاحتواء أعداد من النازحين”، مشيرًا إلى أن بعض سكان المدينة ما زالوا عالقين في منازلهم رغم القصف، بسبب ضعف القدرة المالية وغياب وسائل النقل من أجل النزوح.
كما قال مدير قطاع “الدفاع المدني” في إدلب، مصطفى حاج يوسف، إن “الوضع في معرة النعمان كارثي، والأزمة أكبر من قدرة المنظمات المحلية على تحملها، مع صعوبة كبيرة في نزوح السكان ونقل أمتعتهم إلى أماكن أكثر أمنًا بسبب الفقر وغياب وسائل النقل”.
وأضاف حاج يوسف، لعنب بلدي، “نوجه نداء استغاثة للمنظمات المحلية والدولية لتحمل الكارثة التي تعتبر الأكبر في المنطقة منذ أعوام”، مشيرًا إلى أن فرق “الدفاع المدني” استنفرت جميع طواقمها لاستيعاب الأزمة ونقل النازحين من المنطقة التي تتعرض لحملة تصعيد مستمرة من النظام وروسيا.