عنب بلدي – محمد حمص
صارت كمية النفط الضئيلة التي تنتجها حقول النفط في سوريا حجر أساس في توزع السيطرة السياسية والميدانية على الخريطة، ومع الأزمات الاقتصادية الحالية فإن هذه الكمية كفيلة بالوصول إلى حالة من الكفاف.
ويدور الحديث مؤخرًا عن حاجة كل من القوى الفاعلة (روسيا والنظام، أمريكا، تركيا) على حدة إلى هذه الثروة النفطية، ومدى قدرتها على الاستفادة منها.
في تشرين الأول الماضي، أعلن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، عن قراره بسحب القوات الأمريكية من سوريا، بعد ما وصفه بـ”الانتصار” على تنظيم “الدولة الإسلامية”، ما دفع تركيا للبدء بعملية “نبع السلام” العسكرية ضد “وحدات حماية الشعب” (الكردية) المدعومة من واشنطن.
تراجع ترامب عن قراره تحت ضغوط داخلية، مبررًا ذلك بأن قواته تسعى إلى السيطرة على النفط السوري قائلًا، في منتصف تشرين الثاني الماضي، “نحتفظ بالنفط. تركنا قواتنا هناك من أجل النفط فقط”، وأشار إلى أنه قد يدعو شركات أمريكية كـ”إيكسون موبيل” (مثلًا) للاستثمار هناك.
توجه ترامب للاحتفاظ بالنفط قابله سعي تركي للاستفادة منه، ففي 17 من كانون الأول الحالي، دعا الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى استثمار النفط السوري في إعمار المناطق التي سيطرت عليها قواته و”الجيش الوطني” السوري الذي تموله وتدعمه أنقرة، في عملياتها العسكرية شمال شرقي سوريا، وفق ما نقلته وكالة “الأناضول” التركية.
وقال أردوغان، “لنستخرج معًا النفط من الآبار التي يسيطر عليها الإرهابيون في سوريا، ولننجز مشاريع بناء الوحدات السكنية، والمدارس، والمستشفيات، في المناطق المحررة من الإرهاب، ونوطن اللاجئين فيها، ولكن لا نلمس استجابة لهذه الدعوة، لأن النفط أهم بالنسبة لهم”.
هذه التصريحات جعلت تساؤلات تدور حول قدرة إنتاج النفط السوري على الإسهام في عملية إعادة الإعمار المقبلة، التي ترتبط بالحل السياسي ومدى توافق الأطراف الفاعلة على هذا الحل.
النفط السوري بالأرقام
لا تعتبر سوريا دولة منتجة للنفط بشكل كبير مقارنة بالدول الجارة كالعراق ودول الخليج، وانخفض إجمالي الإنتاج المحلي في سوريا من النفط إلى أقل من 30% منذ عام 2010، وفقًا لكتاب الحقائق العالمية الصادر عن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، بالوقت الذي انخفضت فيه ميزانية النظام السوري إلى ما يقارب الثلثين.
قد يكون النفط كافيًا لدعم حكومة النظام السوري أو أي قوة منافسة، ومن يسيطر على الصحراء السورية الغنية بالنفط يمكنه تحديد من الذي يسيطر على مناطق واسعة من البلاد.
في عام 2010 أنتجت الآبار السورية حوالي 385 ألف برميل بشكل يومي بنسبة 0.5 من الإنتاج العالمي، وفقًا لشركة “BP” (المعروفة سابقًا باسم British Petroleum)، وهي ثالث أكبر شركة نفطية خاصة بالعالم.
سيطر تنظيم “الدولة الإسلامية” على جزء كبير من شرقي سوريا عام 2014، حيث توجد معظم تلك الآبار، وانخفض الإنتاج إلى ما يتراوح بين 30 و40 ألف برميل في اليوم، استُهلك قسم منها محليًا وبيع قسم آخر بالسوق السوداء.
ثم سيطرت “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) على المنطقة الشرقية عام 2017، واستولت على الإيرادات، وهي واحدة من مصادر التمويل الرئيسة للفصيل، ومن الصعب تأكيد أرقام الإيرادات لـ “قسد”، منذ ذلك الحين.
هل يسهم النفط السوري بعملية إعادة الإعمار
يشكك الباحث في مركز أبحاث الشرق الأوسط بمعهد الدراسات السياسية الدولية في إيطاليا (ISPI)، يوجينيو داكريما، في أن تحدث عملية إعادة إعمار على نطاق واسع باستخدام أموال النفط في المستقبل القريب.
ويرى أن السبب في ذلك بسبب تضرر البنية التحتية النفطية بشدة خلال العمليات القتالية، وهبوط مستويات الإنتاج، فضلًا عن فقدان البلاد لكل القدرات الصناعية بشكل تقريبي خلال الحرب.
وقال في دراسة له تحت عنوان “لعبة الطاقة المقبلة في الشرق الأوسط”، في 20 من أيلول الماضي، إن حكومة النظام السوري تفتقر إلى خطة واسعة النطاق لإعادة تطوير مجموعة المراكز الاقتصادية لديه، التي كانت مترابطة فيما مضى، بما في ذلك المصانع وخطوط الإمداد، كما أن كبار المستثمرين الأجانب في الغرب أو الخليج “لم يفتحوا جيوبهم”.
وأوضح داكريما أنه “بوجود النفط أو عدم وجوده لن يتمكن النظام السوري أبدًا من إنتاج الموارد داخليًا لإعادة الإعمار، لكن يمكنه استخدام الواردات، كما فعلت قسد وتنظيم الدولة من قبل، لدعم حالة الكفاف التي يعيشها”.
ويتفق المهندس والخبير النفطي عبد القادر العلاف، في حديث إلى عنب بلدي، مع داكريما في عدم استفادة النظام السوري من النفط في عملية إعادة الإعمار.
وقال العلاف إنه بعد الوصول إلى تسوية سياسية، كمرحلة أولى قبل الحل النهائي للقضية السورية، من غير المتوقع في المدى القريب أن تتمكن الدولة الجديدة من الاستفادة من ثرواتها، معللًا بأن ذلك لن يتم دون الارتهان لمصلحة روسيا ودول أخرى، مقابل اتفاقيات وقعتها حكومة النظام وبقيت سارية نتيجة لتسوية متوقعة.
وأشار إلى أن الناتج النفطي لن يسد من عملية إعادة الإعمار باهظة التكاليف سوى جزء بسيط، في حالة كانت النية تسريعها.
وقال العلاف إن عائدات النفط مفيدة جدًا ليحافظ النظام السوري على استمرار بقائه بالشكل الحالي، وأضاف أن “الواقع يشير إلى إحكام العقوبات الاقتصادية على النظام وعلى حلفائه، وخاصة بعد توقيع قانون قيصر، ولن تفرج الولايات المتحدة الأمريكية عن النفط ما لم تحدث تسوية سياسية، على الأقل، تنهي شكل النظام الحالي”.
واعتبر العلاف أن هذا الإجراء بالإضافة إلى حصار اقتصادي خانق باتفاق أوروبي- أمريكي يدفع بهذا الاتجاه، ولن يتم السماح للدول العربية وغيرها بإعادة علاقاتها مع النظام أو ممارسة أي نشاط اقتصادي معه قبل حصول التسوية.
إعادة الإعمار “الملف المعقّد في سوريا”
تعتبر عملية إعادة الإعمار واحدة من العمليات المعقّدة في القضية السورية، والتي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالعملية السياسية المختلف عليها بين الدول الضامنة لمسار أستانة (روسيا، تركيا، إيران)، وتوجه دول مجلس الاتحاد الأوروبي وواشنطن أو ما يعرف بـ”المجموعة المصغرة” التي تضم دولًا عربية إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبريطانيا.
تعقيدات المشهد السياسي وعدم الاتفاق على عملية سياسية برزت بين وجهتي نظر متضادتين، تطالب إحداهما بعملية صيانة أو إنشاء للدستور عن طريق اللجنة الدستورية التي أُقرت بموجب اتفاقية “سوتشي” في أواخر عام 2018 برعاية الدول الضامنة، بينما تطالب الثانية بعملية انتقال سياسي وفق مقتضيات مؤتمر جنيف وقرار مجلس الأمن رقم “2254”.
بالإضافة إلى التعقيدات السياسية، توجد تعقيدات مالية بسبب التكلفة الباهظة التي ربطت بشكل وثيق مع العملية السياسية، إذ تحتاج روسيا إلى الاتحاد الأوروبي للإسهام بعملية إعادة الإعمار، بينما يصر الأخير على تغيير المشهد السياسي الحالي والعملية السياسية القائمة.
تداعيات الدمار الواسع الذي شهدته سوريا، منذ آذار من عام 2011، كانت كارثية على الاقتصاد الوطني، وبحسب دراسة للباحث جوزيف ضاهر الأستاذ في جامعة لوزان بسويسرا، نشرها عبر مركز دراسات “كارنيغي للشرق الأوسط“، في 16 من أيلول الماضي، فإنه في مطلع العام الحالي، تراوحت تقديرات تكلفة إعادة الإعمار بين 250 و400 مليار دولار، بينما وضع النظام مبلغًا مخصصًا لهذه العملية يقدر بـ50 مليار ليرة سورية، في وقت تبدو ميزانية عام 2018 (8.9 مليار دولار) ضئيلة للغاية أمام تقديرات إعادة الإعمار.