اللغة العربية من الشعر الجاهلي إلى “واتساب”
إبراهيم العلوش
وافق اليوم العالمي للغة العربية الأربعاء الماضي، وهو اليوم الذي اعتبرت فيه الأمم المتحدة اللغة العربية لغة عالمية ورسمية في المنظمة الدولية، فهل لا تزال اللغة التي ولدت الشعر الجاهلي هي نفسها اللغة التي تلد لغة “واتساب” اليوم؟
كل لغات العالم تعاني اليوم من صدمة شبكات التواصل الاجتماعي وما أحدثته من تحولات لغوية، ولكن الصدمة الكبرى هي مع اللغة العربية التي تشهد تشظيًا كبيرًا وغير مدعوم من قبل مؤسسات لغوية واجتماعية وعلمية تسهم في ترشيد هذه الصدمة التاريخية.
فكيف يتصرف العرب اليوم تجاه لغتهم التي حوت كنوز البلاغة والشعر والعلم والأدب عبر تاريخهم الممتد خلال ألف وخمسمئة سنة، بدءًا بتاريخ كتابة الشعر الجاهلي والمعلقات والخطب البليغة التي سبقت ظهور لغة القرآن، والتي لا تزال قمة البلاغة في اللغة العربية.
يتصرف الشيوخ والدعاة الدينيون على اعتبار اللغة العربية مقدسة باعتبارها حاملة للغة القرآن، وبالتالي فهي محمية من التغير أو الزوال ما دام الدين الإسلامي سائدًا في الناس، وبالتالي لا حاجة للقلق على اللغة العربية، فللبيت رب يحميه!
القوميون العرب يعتبرون أن عبقرية اللغة العربية نتيجة لعبقرية العرب وتعبير عن إمكانات هذه الأمة، وبالتالي فإن إحياء الفكر القومي والتمسك بالعروبة هو الذي يحافظ على اللغة العربية ويحميها من الغزو الثقافي ومن هيمنة اللغات الأخرى، وهي لغة حوت بلاغات الجاهليين والمسلمين والمسيحيين ولن تكون عاجزة أبدًا عن حماية نفسها ما دام العرب أمة حية وقابلة للانبعاث والتجديد، وبالتالي فإن اللغة العربية كائن أسطوري ولا حاجة للخوف عليه إلا من المؤامرات ومن الغزو الأجنبي.
ولكن على أرض الواقع فإن اللغة الإنجليزية صارت في كل بيت، وصارت عنوانًا للتحضر وللانفتاح على العالم بينما يعتبر كثيرون أن العربية اليوم هي عنوان للضحالة الثقافية، وملجأ للأفكار الدينية المتطرفة، ووسيلة لترسيخ الاستبداد القومي والذكوري، وهي لم تتأثر بالتيارات العلمية الحديثة ولا بالتيارات الاجتماعية المتجددة، وخاصة التيارات المعنية في الحد من الهيمنة الذكورية على الحياة واللغة.
ويبرهن هؤلاء على كلامهم بالمحتوى الرقمي على منافذ البحث في شبكة الإنترنت ومدى محدودية الأفكار الجديدة والمتابعة للتطورات العلمية والأدبية، فالبحث باللغة العربية معظمه محصور بالكبت الجنسي، أو بالبحث عن السلف الصالح، أو بقضايا مستهلكة وغير مبدعة، وينقصها التجديد ومواكبة التكنولوجيا، وصار لزامًا على المهتمين المحترفين في شتى المجالات إتقان الإنجليزية للاستفادة من مواكبة العصر وللخلاص من العقد الاجتماعية والصراعات العربية غير المجدية وغير البناءة.
فاللغة العربية اليوم صريعة لغة الاستبداد من جهة ولغة التطرف الديني من جهة أخرى، وغابت عنها الحياة التي أنتجت روائعها اللغوية في الغزل والوصف والحكمة، وغابت منتجات الفكر والخيال المبدع التي راجت في العصور الأموية والعباسية، وحلت محلها اليوم لغة الخيال التاريخي السلبي والرافض لتجديد الحياة والمطالب بالبقاء في حظيرتي التطرف والاستبداد خوفًا من المؤامرات الخارجية.
لكن رجال النهضة العربية في القرن التاسع عشر رغم احترامهم للغة العربية وعملهم على خدمتها، لم يأخذوا المقدسات اللغوية على محمل الجد، بل حاربوا الجزالة اللغوية التي لا يفهمها الناس، واعتبروا أن وصول الفكرة أو الشعور أهم من الحفاظ على التحنيط اللغوي، لذلك أقصوا السجع وأشكال البلاغة التي أنتجتها العصور المملوكية التي حولت اللغة إلى ألعاب شعرية يمكن قراءة أبياتها من الأمام إلى الخلف وبالعكس، أو من الأعلى إلى الأسفل بدلًا من اليمين إلى اليسار، وابتكروا اللغة السهلة والبسيطة حينها، دون أن تكون لغة عامية مفككة وعاجزة، ومكّنوا اللغة العربية من نقل الكتب العلمية الأوروبية وروائع الروايات والأشعار وكتب الفكر العالمية، ما جعلها لغة حية في مطلع القرن العشرين، وكانت لغة الصحافة هي اللغة الوسطى التي جعلوها حلًا بين لغة التقعر الجاهلية واللغة العامية المنفلتة من الضوابط والقوانين.
وبفضل هذه الحركة الإحيائية جاءت إبداعات جبران خليل جبران وطه حسين ومصطفى عبد الرازق ومن بعدهم نجيب محفوظ وأشعار المهجر وأشعار المعاصرين مثل أحمد شوقي والبارودي وأبو القاسم الشابي ومن بعدهم إيليا ابو ماضي والأخطل الصغير وشعراء الحداثة مثل نازك الملائكة وبدر شاكر السياب ونزار قباني وصولًا إلى محمود درويش الذي صار متنبي العصر الحديث بجدارة منقطعة النظير.
ومع ظهور لغة شبكات التواصل الاجتماعي انهارت مقومات كثيرة من مقومات سيادة اللغة الفصحى، فالمدرسة والجامعة والصحيفة والكتب الرسمية وغير الرسمية لم تعد وحدها هي وسائل تداول اللغة المكتوبة، فتدفق سيل اللغة المحكية إلى سطور الكتابة حمل معه تنوعه وحيويته وسهولة التعامل به، ولكنه أيضًا حمل فوضى الضوابط والقواعد اللغوية وصعوبة تمييز المعاني بين اللهجات الموجودة في أرياف مدينة واحدة، فكيف بلهجات بلاد عربية متناثرة التوزع والأصول والثقافات، وهذا مما حمل الكثير من اللغويين على الانغلاق والعودة إلى قوقعة الأصولية اللغوية الصافية التي يجدها في اللغة الجاهلية وفي لغة القرآن والكتب القديمة، رافضًا استصلاح ما تدفق من بحار اللهجات إلى اللغة المكتوبة، علمًا أن هذه اللهجات كانت موجودة من قبل، ولكنها كانت ممنوعة من التعبير عن نفسها عبر السلطات الرسمية للثقافة والكتابة، وقد وجدت أخيرًا “واتساب” و”فيسبوك” وغيرهما للتعبير عن نفسها بيسر وبحيوية كانت تفتقدها اللغة الفصيحة التي تنظر إلى هذه اللهجات باستخفاف وبتجاهل، إن لم يكن باحتقار، بينما كانت قواميس اللغات الأخرى تتصالح مع هذه اللهجات بإضافة الكلمات الشائعة في قواميسها وجعلها كلمات رسمية ومعترفًا بها بدلًا من أن تظل منبوذة في الشارع ولا يتم الاعتراف بها، فاللغة الفرنسية مثلًا نهلت حتى من اللهجات المحكية المغاربية وأدخلتها في قواميسها مثل لاروس وغيره.
بعد فيضان “واتساب” وغيره، فإن اللغات واللهجات المحكية تطالب اليوم بحصتها في مساحات القواميس العربية، وآن لأوصاف السيف والرمح والبعير والفرس التي تحتل معظم القواميس العربية أن تخلي مكانها لمصطلحات الحياة اليومية و”واتساب” و”فيسبوك”، وآن لمجاميع اللغة العربية أن تجعل معدل العمر فيها لا يزيد على أربعين سنة بدلًا من ثمانين، فلغة العرب في يومها العالمي تعلن أنها سئمت من التحنيط الجاهلي ومن الشيخوخة، ولا بد لها من التزاوج مع إبداعات الشباب ومع لغة الحياة اليومية من أجل أن تجدد إبداعها، ومن أجل أن تتجنب مصير اللغة اللاتينية التي صارت مجرد لغة تاريخية للكتابة، ولتتجنب أيضًا الأوصاف السائدة عنها اليوم كلغة استبداد وتطرف، ولتكون لغة متجددة معايشة لثورات الربيع العربي الذي يحمل الأمل لشعوب هذه المنطقة بعد طول الاستبداد والانغلاق على الذات المتورمة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :