مجزرة التربة في قلب مدينة داريا كانت مادة دسمة لإعلام النظام عبر قناتيه الدنيا والإخبارية السورية، لقد كانت تقارير هذا الإعلام الشاهدَ الأكبر على تلك المجزرة.
يوم السبت 25 آب 2012 كانت المجزرة الأكثر وحشية… فحسب روايات الناجين، بدأت قوات النظام بجمع المارة من هذا الشارع وبإيقاف السيارات وإنزال من فيها من أطفال ونساء وشيوخ لينهالوا عليهم بالضرب والشتم قائلين «نحنا هون لنقتلكن ونسرقكن؟!» وكان مصير كل من لا يقف لهم رصاصًا حيًا يرديهم قتلى أو جرحى ينزفون حتى الموت.
يقول حسن الذي نجا من الإعدام: “يطلق القناص رصاصته كإشارة للجنود على وجود هدف والهدف يعني سيارة لأحد المارة من الناس ليتجهزوا لإيقافه أو إعدامه مباشرة، تم حشرنا في حارة مسدودة ليصبح عددنا قرابة الخمسين شخصًا من بيننا نساء وأطفال وبعد حوالي الساعتين أو أكثر، وفي تمثيلية هزلية، أخبرنا الضابط أن الطريق أصبح آمنًا من المسلحين وأنه يمكننا الذهاب إلى وجهتنا ولكن على شكل مجموعات لا تتجاوز الخمسة أشخاص كان الضابط يرتدي الزي المدني ويجلس على كرسي في مقدمة الحارة يسأل من يريد أن يذهب”.
ويتابع “أول مجموعة كان فيها ممن أعرف أم حسام وابنها، وبعد خروجهم بلحظات بدأ إطلاق الرصاص الكثيف لدقائق. نحن لم نكن نرى أو نعلم ماذا يحدث في الشارع لأن صوت الرصاص لم يتوقف، وكل ما يدور في بالنا أن يأتي دورنا لنغادر إلى بيوتنا وأن أصوات الرصاص العشوائي هي لترهيب الناس والأهالي”.
جاء دوري للخروج، يُكمل حسن، “لأجد الجثث مكدسة فوق بعضها، ربما كانت تتجاوز العشرين جثة كلها أعدمت بالرصاص أدركت حينها أن الرصاص الذي كنا نسمعه استهدف كل الخارجين من الحارة التي كنا فيها، كانوا أحياء منذ قليل ينتظرون مثلنا موتهم دون علمهم بمصيرهم، هم خارجون إلى حتفهم وليس إلى منازلهم، رأيت أم حسام، كانت ماتزال تئن وهي تعيش سكرات الموت، أيقنتُ حينها أني ميت لا محالة، فركضت مسرعًا لأجد باب منزلٍ مفتوحًا، دخلته وتابعت الهرب من سطحٍ لسطحٍ لأجد نفسي في مكان آمن بعيدًا عنهم”.
الطفلة رنيم نجت هي أيضًا من تلك المجزرة الرهيبة ولتكون شاهدة على قاتل أمها وأختها وأخيها الصغير، عندما كانت تشاهد تقرير الإخبارية السورية لتروي مأساة قتل أمها وكيف حاولت الأم انقاذهم، عندما قالت للعناصر: «عندي ذهب خذوه واتركوا أطفالي أحياء».
“أخذوا منها الذهب وبعد ذلك قاموا بإطلاق الرصاص علينا”، تتابع رنيم حديثها “نزلت أنا وأخي على الأرض واختبأنا خلف براد صغير، وكنت أشاهد أمي وهي تنازع، وأختي قد فارقت الحياة فور إطلاق الرصاص عليها، أما أخي الصغير فلم أستطع رؤيته. وبعدها هربنا أثناء ذهابهم لإحضار مجموعة أخرى”.
دمعت عينا رنيم عندما رأت والدتها بالتلفاز في تقرير الإخبارية؛ أمها التي كانت تحتضن ابنها الصغير بكل حنان وهي على وشك الرحيل، لتشير بعد ذلك إلى الشاشة الصغيرة “هادا هو الضابط وعناصره يلي قتلوا أمي!”، ويظهر في المشهد هذا الضابط واقفًا بين الناس وهو يسألهم “هل فعل أحد منا لكم شيئًا؟ نحن هنا لحمايتكم”.
رامي شاب آخر نجا من تلك المجزرة، وكان من الأشخاص الذين بقوا في ذلك المكان حتى النهاية/ يحكي عن فتاة كانت معهم لم تكن من بنات داريا -حسب لكنتها ولباسها- أخذها العناصر معهم وغابت لساعة لنراها بعد ذلك تأتي من الشقة التي تمركز فيها عناصر الجيش مسرعة باتجاه الضابط ولتنزل على قدميه لتقبلهما وهي تصرخ وتقول له «لقد اغتصبوني» فيضربها على وجهها ويقول لها: «اخرسي ما قلتلك أنت متل بنتي!».
يتابع رامي حديثه فيقول: بعد ذلك أشارت لنا تلك الفتاة بيدها أنهم يقتلون الناس بالخارج، أخذوها معهم وهي تسير إلى جنب الضابط خائفة من عناصره -وربما منه أيضًا- ولم نعلم ما حل بها، وأغلب الظن أنهم قد قتلوها لكي لا تكون شاهدة عليهم لاحقًا.
“بعد ذلك جاء دورنا، كانت إلى جانبي جارتنا وأطفالها يبكون من شدة الخوف، أمسكت بيد ابنتها وقلت لها لنذهب سويًا علنا ننجو، جاء العنصر لاقتيادنا إلى مصيرنا الذي عرفنا ملامحه”.
صرخ بنا «طلعوا بس خمسة لشوف» فقلت له: «نحنا جيران وبدنا نروح مع بعض» فتركنا نذهب معًا.
ويتابع الشاب “وصلت إلى الشارع ودون أن أشعر ضربت بيدي على رأسي من هول المشهد، فصرخ بي هذا الجندي -الذي لن أنسى وجهه ماحييتُ- شبك يا حيوان؟ تداركت الموقف وقلت له: ما في شي، وتابعت سيري معهم”.
“عندما مرت جارتنا أمامهم انشغلوا بسرقة ما تلبسه من ذهب، فتركت يد الطفلة وركضت مسرعًا لأجد سيارة فقفزت عليها ومنها قفزت على حائط منزل عربي في المنطقة واستطعت النجاة، قتلوا جارتنا مع طفلها الصغير، وعلمتُ لاحقًا أن طفلتها رنيم نجت كما نجوت”، يختم رامي.
هكذا قتلوا الناس بدم بارد وحقد دفين الذين يدّعون أنهم يحمونهم ويصورون ذلك بعدساتهم! ولكن الحقيقة كما رواها من نجا لا كما يفترون.