صالح علماني.. ما تَرجمَ وما قال
نبيل محمد
يمكن القول بكل بساطة إن أدب أمريكا اللاتينية كان من أكثر الآداب قراءة لدى العرب على مدى سنوات طويلة، امتدت منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي حتى أيامنا هذه، انتشار هذا الأدب باللغة العربية لم يكن لافتًا على الصعيد العربي فحسب، بل أيضًا كان لافتًا لعمالقة هذا الأدب من غابرييل غارسيا ماركيز إلى ماريو باراغاس يوسا وسواهما، اللذين أشارا إلى اعتزازهم بانتشار رواياتهم باللغة العربية، مرجعين الفضل بذلك إلى المترجم الفلسطيني السوري صالح علماني، الذي غادر عالمنا قبل أيام، والذي كانت له اليد الطولى في خلق جيل كامل من القراء ممن عشقوا الواقعية السحرية اللاتينية، بل ولعل من هذا الجيل من تشكل قراءاتهم للرواية الإسبانية اللاتينية معظم ما قرؤوه من الآداب في حيواتهم.
فمن لم يمتلك مكتبة كبيرة أو متوسطة في بيته لا بد وأنه امتلك كتابين أو ثلاثة ترجمها علماني. ستجد آلافًا من القراء العرب كاتبهم المفضل هو ماركيز، وروايتهم المفضلة هي مئة عام من العزلة، أو الحب في زمن الكوليرا، أو حفلة التيس، تلك التي قدمها مترجمها بإخلاص، وبراعة قل نظيرها في نماذج الأدب المترجم المتوفر في المكتبة العربية.
“أن تكون مترجمًا جيدًا أفضل من أن تكون روائيًا سيئًا”، جملة كانت منطلقًا لعلماني في عمله الذي قضى حياته في تفاصيله، قناعة كان الاعتراف بها أول مواجهة له مع ذاته، فالميزة التي وجدها في الروايات التي كان يقرؤها، أهم بكثير من الميزة التي كان يعتقد أنه من الممكن أن يحققها إذا ما كتب الرواية. فترك التأليف واتجه للترجمة التي أدرك أنه قادر عليها، وأن لديه من الذائقة الأدبية أولًا ومن الإمكانية اللغوية ثانيًا ما يؤهله لنقل عشرات النفائس الأدبية من مناطق بعيدة مئات آلاف الكيلومترات عن البلدان العربية، التي يمكن لترجمتها أن تحقق فارقًا كبيرًا في ذائقة القراء العرب، وأن تعرّفهم إلى عوالم قصصية من الصعب إيجادها في المكتبة العربية، أو حتى في المترجَم من الآداب الإنكليزية أو الفرنسية أو الروسية أو الألمانية.
كثيرًا ما تواجه قارئًا عربيًا يتذكر اسم صالح علماني مترجمًا قبل أن يتذكر اسم الروائي صاحب الرواية التي قرأها، فأسماء الأدباء في أمريكا اللاتينية ليست سهلة النطق والحفظ، كما أن اسم علماني ورد على عشرات الأغلفة، وواجهات مخازن الكتب، و”بسطات” بيع المستعمل منها، والمعارض في كبرى المدن العربية.
ما تجلى أمام علماني من وضوح في جماليات الأدب، وما تفرّد به من ذائقة انتقائية واطلاع واسع في مجاله، لم يكن متجليًا في توجهاته السياسية ومواقفه، ولعل الثغرات والهفوات التي اعترف بها في وقت ما حول أخطاء في الترجمة، مرت ببساطة ولم تستدعِ أصلًا الوقوف عندها، إلا أن تأييد جريمة نظام سياسي ديكتاتوري تجاه شعبه لم يكن هفوة يمكن تجاوزها ببساطة.
غريب وليس من المنطق بمكان أن يتحلى مثقف بما تحلى به علماني من رؤية بصفة التصفيق للمجرمين. احتفى علماني بكلمات بورخيس عن الحكومات، حين وجد أن مصطلح حكومة مثالية غير منطقي، فحكومة ومثالية هما كلمتان على طرفي نقيض، لكن علماني وجد في الحكومة السورية ما لا يقع في هذا التوصيف.
لم يتوانَ يومًا عن التعبير عن مواقفه تلك، ولم يتجنب الخوض في غمار قضية تجنَّب عشرات الكتاب والمترجمين الخوض بها، حفاظًا على “سوقهم” إن صح التعبير، وابتعادًا عن أي اصطفاف سياسي. كان من الجيد أن علماني اصطف، ولم يخفِ ما أخفاه سواه، ولم يضطر للكلام المعسول العام القابل للتأويل، لكن أين اصطف؟ لقد كان بوضوح بصف السلطة، ووجد الطريق إلى القدس تمر من حلب، بعد ترجمة 100 رواية من خيرة ما كُتب في التاريخ الإنساني.. يا للدهشة.
اذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال يحوي معلومات خاطئة أو لديك تفاصيل إضافية أرسل/أرسلي تصحيحًا
إذا كنت تعتقد/تعتقدين أن المقال ينتهك أيًا من المبادئ الأخلاقية أو المعايير المهنية قدم/قدمي شكوى
-
تابعنا على :