محمد ديرانية
المناداة بتطبيق الشريعة اليوم، وهي في الحقيقة دعوة لتطبيق الحدود، ليست أكثر من ردّ فعل لمؤثرٍ خارجي، وهو -على عادة رد الفعل- يكون عنيفًا ومتعجلًا يجانب الصواب.
منطلق الدعوة
أما الفعل فيتجلى في الكبت المرير لعقود طويلة على الشعب السوري، انكسر فجأة دون تمهيد، ثم تبعه سلسلة عوامل نفسية وميدانية، تجلّت في الحصول على شيء من حرّية الرأي السياسي أو الديني، واستقلال جزء من الأرض وخضوعها لحكم ذاتي شعبي وشعور الأغلبية بالذات المغيبة، لتطالب تيارات عاملة في الساحة بما كانت محرومة منه وهو «تطبيق الشريعة».
وأذكّر أن ذات الدعوة انطلقت في مصر كردّة فعل على هزيمة 1967، وانحسار الصورة فيها عن مناخ اقتصادي ونفسي يزخرُ بالمتناقضات، وواقع سياسي تنخره الاتهامات والشكوك.
جميع العوامل التي أسّست وشجعت الداعين لتطبيق الشريعة هي عوامل ميدانيّة ونفسية، التقت مع الواقع على وجه المفاجأة والصدفة واستجرار الأحداث بعضها البعض؛ لا ترتبطُ بوعي الداعين لما يدعون ولا تنطلق من خطة وبرنامج سياسي شرعي مرسوم متكامل موحّد.
ومسارٌ يلبس عباءة الدين
دعوة كانت ردّة فعل لكبت مرير لا فعلًا يردّ على الواقع، يدفعها حسن النوايا ويحصدها سوء المآل؛ لا يحدّها خط أحمر، تلبس عباءة الدين وترفع شعاراته لتحيط بها الجماهير وتكسبَ الحاضنة، تستهدفُ العواطف المكبوتة والأنفسَ المغيبة، لتشعرهم بذواتهم وبأن الحلم المنتظر عاد، وأنّ الخاسرَ الوحيد إنّما هو المتأخر عنها.
تحكّم السياسة بالدين والديّن بالسياسة، تستغلّ المساجد وتجعلُها منبرًا لتصدير خطاباتها، فتكسبُ فائدتين: أولهما إلباسُ أقوالها واجتهاداتها لباسَ القداسة لقداسة المكان والشّعائر، وبالتالي جعلُ الخروج عليها محرمًا يخالف الشعائر، وهذه هي الثانية.
منظومة صورٍ عاطفيّة
أما خطابات دعوة تطبيق الشريعة، فحماسية: تدغدغ العواطف وتخطف القلوب وتسلب اللباب وتغيب في الأحلام؛ تعانق الرسول تهدف للوصول وترجع للأصول، الله ناصر أهلِها وأهلها أهلٌ لها، المجد قارب عودَهُ والدينُ أعجمَ عودُهُ…» إلى نهاية القائمة من الصور العاطفيّة المنظومة بعناية ودقّة.
من يقفُ في وجهها للإصلاح والتصويب، هو إمّا كافرٌ أو خارج على الجماعة أو مُفسد في الأرض.
كيف بك أيها القارئ إن علمت أن هذه الدعوة يحمل راياتها فئات متعددة، وأن لها عند كل فئة تعريف مخصص ونوايًا متقاربة بحمل السيف على المخالف، وتهيئة «النّطع» لمن يرفضْ.
ما أشبه اليوم بالأمس!
وبالعودة إلى صفحات التاريخ في القرون الأولى نرى حربًا تدور بين جيشين، كلاهما يدينُ بالإسلام ويحمل نفس الدّعوة بتصوّر مختلف، وكلاهما مُلتحٍ يصلّون ويصومون، لكن الأول عند الثاني كافر أو خارج عن الجماعة، والثاني عند الأول مثله أو أكثر، وشهيد الفريقين «ميّتٌ ميتةً جاهلية» عند قاتليه.
هذا إن حصرنا الفئتين باثنتين فقط، وحسبنا أن نعلم أنهم بالعشرات، بل بالمئات إن استوينا إلى نطاق الأفراد والجماعات الصغيرة.
إننا مقبلون على حرب ضروس في منطقتنا، يكون المسلم فيها القاتل والمقتول، والجماعة والخارج عليها لا تنتهي بنظر كلّ فريق حتى ينتهي الآخر، ولا تحطّ أوزارها حتّى يكفّ أحدُ الطرفين يده.
كلا الفريقين يرى في صبره جهادًا، وأنّه لم يجد لحياته طعمًا حتى بلوغه هذه الساعات، فكيف بها إن تعرّضت للتهديد والتلاشي والعودة به إلى قضبان العبودية تحت حكومات الطغاة!
رسالة وحيدة تقف أمام حاملي لواء تطبيق الشريعة في هذه الحالة هي «الموت»، وما يلبه من «تضحية وبذل» ثم القتال والدماء.
ما أشبه اليوم بالأمس، فصفّين والجمل (معركتان بين جيشي علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان 36-37 للهجرة) تعودان من جديد، وما هذه بعيدة عن تلك.
فئتان تقاتلان على رفع راية الإسلام، تدفعهما من خلفه العاطفة وحسن النية، ويسوقُه من أمامه حلم الخلافة السويّة وأمل الدولة الراشدة، التي لم يضع لها تصوّرًا ولم يعرف عنها إلا الحدود والراياتْ والشعاراتْ.
لقد تجاوزت عن مشاهد آملُ أن تعرفها -أيها القارئ- بنفسك، لكن لك أن تتوقع حجم السعادة التي ستلفّ الحكومات والغرب وجميع من يهمّه هلاك المنطقة، ووأد الصحوات الفكرية وإسالة دماء المسلمين.
لا بأس عليك إن شعرت بقدر من اليأس وأحسست بأن الواقع والقهر، قد دفع بك إلى شرك كلّه خداع فقد أدركتُ هذا معك.
ولا لوم إن حزنت من أجل سوريا والإسلام والأمة فأنا مثلك حزين، وأحمدُ الله من قبل ومن بعد أننا التقينا قبل السقوط.