مع التجدد المفترض لانعقاد جلسات اللجنة الدستورية، ورفض وفد الأسد الموجود في جنيف البدء فيها ما لم يُقرّ جدول الأعمال الذي يريده والذي لا علاقة لها بقضايا الدستور، لا ينكشف السلوك المعرقل من قبل الأسد، إلا لبضع معارضين يتوهمون أنه يسجلون نقاطاً لصالحهم على مرأى من المجتمع الدولي. ما انكشف على نحو أكثر جلاء هو عدم وجود مجتمع دولي معني بالعملية التي صرف مندوبوه وقتاً طويلاً للتحضير لها، وعانوا أيضاً من شروط الأسد المتعلقة بتشكيل كافة الوفود المشاركة فيها وطرق عملها، وصولاً إلى تعطيلها.
ما ينبغي أيضاً الانتباه إليه أن موسكو هبت فوراً لنجدة وفد الأسد، وطالبت المبعوث الدولي بعدم التدخل وتقديم أي جدول أعمال، بذريعة أن ذلك يتجاوز صلاحياته كمسهّل إداري لأعمال اللجنة، الأمر الذي ينطوي على دعم يخالف ما يُروّج عن ضغوط روسية على الأسد من أجل المضي في أعمال اللجنة. جدير بالذكر أن موسكو، مع مسايرة وموافقة غربية، هي من اقترح الشروع في المسار الدستوري أولاً، وتشكيل اللجنة بأقسامها الثلاثة تم برعايتها مع شريكيها في مسار أستانة، وبدعمها سلوك الأسد تعرقل تحقيق رؤيتها للحل!
قد نجد تفسيراً للتواطؤ الروسي على العرقلة بكون الخيارات الروسية متغيرة مع الوقائع، وبأن موسكو تسعى طوال الوقت إلى التكسب، أو إلى التسويف بهدف خلق وقائع تعزز نفوذها على الأرض. لا يضيرها في ذلك النكث بوعود قدّمتها للغرب أو للشريك التركي فيما يخص الاتفاق على شكل سوريا المستقبل، ومن إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية تعيد توزيع السلطة وفق التفاهمات الدولية. ذلك التصور مرتبط أساساً بتعهد دولي لإعادة الإعمار، ويتأرجح فيه مصير بشار بين المشاركة والتنحية، في حين يتم الإبقاء على البنية العسكرية والأمنية مع إعادة تأهيلها.
لا غرابة في أن أكثر من يروّج خفية للوعود الروسية المزعومة هم المعارضون المنضوون في مسار أستانة واللجنة الدستورية، لأنها تمنح إفلاسهم غطاء سياسياً، ولأن البعض منهم لا يجد تبريراً للسير خلف السياسة التركية سوى وعود مزعومة قطعها بوتين لأردوغان ويجب تصديقها. ينبري بعض هؤلاء، ببراءة مثيرة للإعجاب، إلى اعتبار القصف الروسي على إدلب منافياً للعملية السياسية، ولا تُعرف وجهة شكواهم التي لم تعد تعبّر عن عجز بقدر ما تشي بغباء سياسي.
إن سعر صرف اللجنة الدستورية دولياً، وتحديداً المعارضة المتمثلة فيها، شبيه بسعر صرف الليرة السورية الذي لا يعرف سوى الهبوط، ولن يشهد غيره في المدى المنظور. استهانة وفد الأسد بوفد المعارضة وقسم من وفد “المجتمع المدني”، بل الاستعراض في إهانتهم، هما تحصيل حاصل لوضع المعارضة. يبقى الأساس في هذا السلوك بمجمله إيصال رسالة للجميع، مفادها أن الأسدية لا تتغير ولن تتغير، ولن تقبل حتى بمحاولات الخارج تجميلها عبر المسار الدستوري، ولا عبر أي مسار آخر.
لقد ظهر بشار على شاشة التلفزيون التابع له كي يعلن تنصله من اللجنة الدستورية، ثم بدا كأنه أُجبر على الظهور على شاشة قناة روسية كي يتراجع عن موقفه أو يلطّفه. ذلك يشير إلى أمرين، أولهما وجود اختلاف في وجهات النظر بينه وبين موسكو، وثانيهما قدرة الأخيرة على فرض توجهاتها عندما تشاء. المشكلة دائماً كانت في فهم القدرة الروسية، وهي موجودة حقاً، لكن يجدر التفريق بين قدراتها نظرياً وعملياً، حيث بين ما هو نظري وما هو عملي هناك مساحة يلعب فيها بشار بدعم إيراني تارة، ولحسابه الخاص تارة أخرى.
تستطيع موسكو إسقاط بشار عندما تشاء، وعلى القياس ذاته تستطيع واشنطن إسقاطه بأقل التكاليف العسكرية. لكننا نعلم أن موسكو لن تفعل، مثلما لن تفعل واشنطن، وأول من يعلم ذلك هو بشار نفسه. وربما يعلم بشار أن الغرب غير مستعد ليدفع لروسيا ثمناً مقابل تنحيته كما كانت التحليلات تنص في بداية التدخل الروسي، وهذا يعني موافقة غربية على بقائه تشجّعه على المناورة كي يبقى بشروطه هو.
أمامنا حالة يصعب فهمها شكلياً؛ هي وجود سلطة متهاوية ضعيفة، لكنها وإن رضخت لمختلف أنواع الضغوط الخارجية المباشرة تتحين الفرصة لتبتز الخارج وكأنها في موقع قوة. لم يؤثر فيها يوماً أنها كانت مهددة بالسقوط العسكري، فخرج رئيسها طالباً النجدة وأتته. ولا يؤثر فيها طبعاً الانهيار الاقتصادي الحالي، بل لا تتحرج من إلقاء المسؤولية كاملة على العقوبات الغربية المحدودة، طالبةً من الغرب الذي تتهمه بالتآمر عليها مساعدتها على تجاوز الأزمة الاقتصادية.
المفارقة، لمن لا يفهم العصابة الأسدية، أن المنطق يقتضي أن يدفع بشار ثمن بقائه، بينما يتصرف في الواقع على مبدأ مطالبة الآخرين بدفع ذاك الثمن. لا يصعب فهم المنطق الذي يسير به بشار بعد التقاطه مبكراً عدم وجود نوايا دولية لإسقاطه، بل أصبح سقوطه كأنما تهديد للغرب نفسه، والحق أن أكثر ما تجيده الأسدية هي تقديم نفسها بمثابة بلطجي محلي لا غنى للخارج عنه، لضبط الداخل وأيضاً ليكف عن إزعاج الخارج ضمن مناطق اهتمامه في الجوار، أو حتى عبر علاقات المخابرات الأسدية بشبكات الإرهاب الدولي.
من جهة موسكو، يبقى بشار مطمئناً طالما بقيت المافيا الروسية الحاكمة تقدّم تدخلها في سوريا تحت شعار المحافظة على سيادة البلد ورفض تغيير الأنظمة. الخطر الوحيد هو أن تقرر موسكو تصفيته، وهو الأسلوب الذي تجيده، إلا أنه خطر مؤجل إذا كان موجوداً، وما دونه يستطيع بشار محاباة موسكو والرضوخ لتفاهماتها التي تخص تقاسم النفوذ مع قوى خارجية أخرى، أما عندما يتعلق الأمر بتغيير في تركيبة سلطته فهو غير مستعد لإبداء المرونة.
في العديد من المناسبات وصف مسؤولون أجانب بشار الأسد بصفات أقلها عد التزامه بوعوده، والواقع أن ما يصدق فيه هو دفاعه المستميت عن سلطته وبقائها كما هي، وانطلاقاً من عدم وجود رغبة دولية في إسقاطه يبدو كمن يخاطب الجميع: طالما أنكم قبلتم ببقائي فعليكم مساعدتي على ذلك، بل عليكم القبول بي كما كنت دائماً. للإنصاف، هو أكثر صراحة من الذين يروّجون أفكاراً عن تغيير يقبل به تحت الضغط.